وثيقة:هو في عمان...هي في بیروت

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مذكّرات
العنوان هو في عمان...هي في بیروت
تأليف مايا أنور
تحرير غير معيّن
المصدر مجلة زعفران
اللغة العربية
تاريخ النشر 2018-09-23

تاريخ الاسترجاع 2018-12-28



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مجلة زعفران


هو في عمان...هي في بیروت - مایا أنور

كثیرة هي الناس التي تعیش مثقلةً بالهموم، تحیا كل یوم وفوق أكتافها جبال من الهم والتعب، وكل هم عن هم یختلف، والتعب حتى لو اختلفت أسبابه یبقى إسمه تعباً بالنسبة لحامله.

بعض الناس همها لقمة تسد بها جوعها وجوع أولادها، وهناك أناس تبحث عما یقیها برد الشتاء. هنالك خریج الجامعة الذي تخرج منذ سنین ولم یجد وظیفة یبدأ بها مشوار حیاته. أما ذاك فهمُّه بضعة دنانیر یسد بها قرض السیارة، وذلك یقود سیارته وباله مشغول بكیفیة سد قرض البیت الذي اشتراه، ولدینا ذلك الذي لا یجد حلاً لمعضلة أین سیسافر بعائلته في الصیف للسیاحة، أو ربما أین سیسهر لیلة رأس السنة.

أما أنا، فتعبي وهمي مختلفان عن كل هؤلاء، فهمِّي سببه هویتي الجندریة، جسدي، دوري الإجتماعي الذي أضطر أن ألعبه أمام الناس، همي وتعبي هو من أنا.

أنا إسمي مایا، لكن أوراقي الرسمیة لدیها رأي مخالف، كما أنها تشیر إلى أن جنسي ذكر، لكنني أعرف نفسي أكثر من ذلك الشخص الذي أصدر هویتي، أنا أنثى، إمرأة عابرة جنسیاً، أنا مایا، إمرأة ترانس.

طفولتي المبكرة تتواجد في ذاكرتي على شكل مشاهد محدودة، أراها كما لو كانت صوراً أخذت لي في جو ضبابي، فلا هي واضحة ولا هي بغائبة عن بصري. ولكن الواضح لي منها هو أنني كنت تائهة، حائرة، أتخبط ما بین شعوري الداخلي ونظرة الناس لي، تلك النظرة التي كانت سبباً في ازدحام الأسئلة في رأسي الصغیر، لماذا یصر الناس على معاملتي كولد، بینما أنا أشعر أنني بنت؟ من أین أتى هذا الشعور؟ كیف تم إصدار القرار بأن أكون ولداً؟ ومن اتخذ هذا القرار؟ ولماذا لدي القناعة التامة بأنه خطأ؟ عشت طفولتي ورأسي به مئة سؤال وسؤال، ولم أكن قادرة على إیجاد أجوبة لها. وكان البوح بها لشخص ما یبدو لي كما لو أنني أبحث عن السخریة، أو ربما العقوبة، فلقد تربیت في بیئة ذات خلفیة دینیة ذكوریة علمتني أن الولد أفضل من البنت، وأنه من العیب أن یكون الولد مثل البنات، لیس عیباً فحسب، بل هو حرام، فملعون هو من یتشبه بالنساء، ولكنني لا أتشبه بالنساء، أنا أعرف وكلي یقین أنني من النساء، وحتى لو كان الولد أفضل من البنت، "شو یعني؟، أنا بنت، مثلي مثل كل هالبنات في هالدنیا، عایشین ومتعایشین مع حقیقة إنهم بنات" . ما ترعرعت علیه خلق لدي إحساس بالذنب، ذنب لم أقترفه یوماً، إلا أن إحساسي بأن هناك خطأ ما عندي وبتلك السن الصغیرة جعلني أشعر بأنني أرتكب خطیئة ما، حتى لو لم أفعل شیئاً، مجرد وجود الفكرة في رأسي یجعلني أشعر بأنني أرتكبها.

ومع كل عام كنت أكبر فیه، كان الإحساس یكبر، وكوني ولدت في بدایة ثمانینیات القرن المنصرم، وصلت لعمر المراهقة وتخطیته، وبدأت مرحلة الجامعة، كل ذلك في ظل عدم وجود أي مصدر یوفر لي إجابات شافیة على تساؤلاتي. أجل، فتلك الأیام لم تشهد اختراعات مثل الإنترنت أو الفیسبوك أو حتى القنوات الفضائیة، كانت الحیاة بسیطة جداً، بسیطة لدرجة تجعل مشكلتي أبعد ما تكون عن البساطة.

وعندما بدأ الإنترنت یخطو خطاه الأولى في بلادنا، شاءت الصدفة أن أتعثر بما كان بالنسبة لي أهم اكتشاف في حیاتي، عرفت من أنا، عرفت أنني ترانس، وأنني لست وحدي على هذا الكوكب، هناك الكثیر غیري، في كل أنحاء المعمورة، كانت تلك اللحظة أشبه بلحظة النصر في معركة استنفذت كل ما أملك من طاقة. ولكن صراعاً جدیداً بدأ یشتعل بداخلي، فما ترعرعت علیه من مفاهیم العیب والحرام بدأ ینغص علي فرحة النصر، لیستمر ذلك الصراع أعواماً طویلة أحاول أن أقنع نفسي فیها أن ما أشعر به لیس سوى وهم، وأنه من الممكن أن أتخلص من تلك الوساوس اللي تحوم في رأسي لیلاً نهاراً، إلى أن وصلت لمرحلة "لهون وبكفي" ، لن أقدر أن أعیش دور الرجل، لإنني لست رجلاً، هكذا بكل بساطة، أنا لست رجلاً، جسدي یشكل مشكلة كبیرة، محاولاتي أن أتقبله وأتقبل أن أعیش فیه كما هو بائت بالفشل، "لازم یتغیر، لازم أرتاح فیه" . وأصبح كابوساً لدي أن أكبر وأنا ما زلت أعیش دور الرجل، وأن جسدي جسد رجل، "مصیبة إني أكبر وألاقي حالي رجال بین هالرجال".

كان صعباً علي أن أستمر مع هكذا كابوس، وبدأت بتقبل نفسي كإمرأة كتب علیها أن تكون قد ولدت بحالة الإنزعاج الجندري، أو كما كانت تسمى (اضطراب الهویة الجنسیة)، وبدأت رحلة العبور، أول خطوة كانت البحث عن الأطباء المختصین ممن لدیهم الخبرة بحالات الترانسجندر، وبعد فترة من المتابعة مع طبیبة نفسیة كانت الخطوة الثانیة وهي بدء العلاج الهرموني. تلك كانت أهم خطوة في ذلك الوقت، كانت سبب سعادتي وسبب راحتي النفسیة وهدوئي الداخلي، فالآن سیبدأ جسدي بالتغیر، سیصبح أخیراً المكان المریح الذي تستطیع روحي أن تحیا فیه، ومع كل تغییر كنت ألحظه كنت أشعر بسعادة أكبر، وراحة أكثر، وكنت أوقن أكثر وأكثر أنني على الطریق الصحیح. الخطوة الأولى خلقت الأمل بداخلي أنني سأرتاح یوماً ما، أما الخطوة الثانیة جعلتني أعیش ذلك الأمل.

وحانت لحظة الخطوة التالیة، أصعب الخطوات، مصارحة عائلتي، مقدار الشجاعة المطلوب لهكذا خطوة كان كبیراً، غصت في ذكریاتي الملیئة بالحیرة والتساؤلات والحزن والوحدة، جمعتها كلها في قبضة یدي وحولتها إلى إكسیر للشجاعة، وواجهتهم، وكما توقعت، كانت النتیجة هي الرفض.

رفض العائلة لم یكن كافیاً لأستسلم، "اللي بده یتقبلني أهلا وسهلا، واللي رافضني الله والنبي معاه". واستمریت بالعلاج الهرموني، وبدأت الرغبة الملحة بأن أعیش جندري أمام الملأ، لكن في بلدي، في الأردن، لا یمكنني ذلك، لأظل فیها تحت خانة "هو"، إلى أن جاءت الفرصة للسفر إلى بیروت، وهناك، أخذت مایا فرصتها بأن تعیش، لبست وتزینت، وخرجت للناس وقالت: أنا مایا.

ما عشته من تحرر نفسي واجتماعي في بیروت زاد یقیني بأنني على حق، وأن الله لم یخطئ في خلقي، بل على العكس، خلقني لأسعى لأن أكون أنا، تلك هي رسالتي في الحیاة، أن أحرر نفسي وأشكل جسدي بالشكل المناسب لیتطابق مع هویتي، هویتي التي خلقها الله أیضاً. یجب أن أكون مثالاً للمرأة الترانس التي استطاعت تخطي كل الحواجز أمامها، لعلي أكون في أحد الأیام حافزاً لأي فتاة مثلي كي تجد القوة لتتحرر وتصنع نفسها.

الیوم، وبعد 37 عاماً، صارت حیاتي مقسومة بین هویتین، "هو" في عمان، و "هي" في بیروت، ولا زلت أسعى لأن تكون لي هویة واحدة فقط، "هي"، مایا، في كل مكان، وفي أي بلد وأي مدینة، إیماني بنفسي وبحقي بالحیاة یجعلني واثقة أن هذا الأمر لیس مستحیلاً، بل وأنه صار أقرب، ولكنه یحتاج لبذل الجهد والتعب، تعب جسدي یقضي على التعب النفسي، یقضي على الهم الذي أحمله فوق كتفي.