وثيقة:دخلة بلدي

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Mada Masr Logo.png
مقالة رأي
تأليف حازم دياب
تحرير غير معيّن
المصدر مدى مصر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2015-12-26
مسار الاسترجاع https://www.madamasr.com/ar/2015/12/26/opinion/politics/دخلة-بلدي/
تاريخ الاسترجاع 2017-11-11



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر




قصة مستوحاة من واقع صعيدي وأي تشابه بينها وبين الواقع حدث بالفعل.

الجزء الأول

كنت بين النوم والغفوة عندما سمعت صراخاً مدوياً. أخذت ألعن القهوة التي احتسيتها ليلاً كي تبقيني مستيقظاً وأنا أكتب المقال المطلوب مني في المجلة صباحاً. فشلت كعادتي مؤخراً في الكتابة، ولم يتسلل طعم النعاس إلى عيني. المُريب أن الصراخ كان بالدور الأرضي الذي تسكنه جدتي وخالتي وحديهما، والصوت كان ذكورياً. الرجل لا يصرخ في الصعيد. جاءت أمي لتوقظني، فوجدتْ جفنيّ مفتوحين على مصراعيها فطلبت مني أن أنزل سريعاً لأرى ماذا حل بخالي وأستكشف علة صراخه. ولم يُتح لي حتى بعض المياه من أجل الإنعاش. ركضت للأسفل، ماراً بشقق العائلة، فالعمارة التي نقطن بها ملك خاص، وتتوزّع الشقق فيها بين عم وخال، كما هو الحال في أغلب عائلات الصعيد. وصلت لأكتشف أنني عاري الكتفين والقدمين، حيث تسببّت عجلتي في نزولي بملابسي الداخلية. مرق بخاطري أن أصعد من جديد لأرتدي ما يسترني، وأنتعل حذاء يخفي قدميّ العارتين. لكني تنبّهت أن صوت الصراخ تحوّل لنشيج يتصاعد، وكان لشخص أعرفه جيداً، ويسكن الدور الثالث: خالي شوكت.

لو بكى الرجل في محافظة صعيدية فإنه يفقد الكثير من رجولته. دلفت للغرفة التي ينداح منها الصوت، فوجدت خالتي وجدتي يلطمان خديهما في هلع، وخالي يقبع أرضاً والدموع تطفر من عينيه لتُغطّي لحيته النابتة، والتي تبدو في غزارتها وشعيراتها البيضاء كأنها ستمحي لون بشرته الأسود. ظللت مشدوهاً، ولم ينتبهوا لوجودي، وشهقت بعنف عندما رأيت بقع حمراء من الدم تزداد رقعتها، انتقلت ببصري فرأيته يُمسك بالفرن الحديدي، والدماء تنسكب من قدمه بغزارة، كأنها النهر يصب في مجراه.

– ايه اللي حصل؟.. يلا نروح المستشفى.

عندئذ رأيت والدتي قد رفلت في عباءتها، وجاءتني بملابسي، إذ لمحتني نازلاً دون ارتدائها، وحمّل خالي بيديه على كتفي، وسرنا ببطيء حتى أوقفنا “توك توك”، وأوصلنا إلى المستشفى. هناك عرفت الأحداث بالتفصيل، استغاثت جدتي بابنها ليقوم بنقل الأثاث تمهيداً للشروع في عَمْرة لشقتهم البالية، وكان نصيبه أن يحمل الفرن الضخم التي يحتل نصف الغرفة تقريباً، ظنّاً أنه سيقوى على مواصلة رفعه وحيداً. طُرح خالي أرضاً، وهبط سن الفرن المدبب على قدمه اليمنى فقطع العرق، وإذا تأخرنا في إسعافه لن يتمكّن من المشي عليها ثانيةً. لكنه يحتاج لإثنتي عشرة غرزة، لتمهّد للجرح أن يلتئم سريعاً. رفض خالي ذلك البتة، فقد ربط الطبيب أمر الغرز بأن ينتعل مريضه “شبشب”، وقال خالي أنّه يكره ذلك النوع من الأحذية، وأهون لديه أن يصير عاجزاً من انتعاله. إن كان الكِبر أحد أهم ما ينعت أهل الصعيد، فالعند سمتهم الأبرز. قال الطبيب لخالي في غيظ وضجر:

-إذن تحمّل عناء أن تجوب متعكزاً على رفيق لفترة غير وجيزة، وإلا سنضطر لبتر القدم، فالإصابة خطيرة، ولا يليق أبداً الاستهانة بها. ولا تأتي لي ثانيةً لو خالفت أوامري.

حاولت الانسلال هرباً من الفخ الذي رأيته يُنصب لي: أن أرافق خالي. لديّ مقالات لم تُسلّم بعد، وكتب يتحتّم عليّ قراءتها، ومشاريع كنت سأمضي بها قدماً. ولكن جدتي نظرت لي نظرة رجاء، لأنها رأت أنها السبب فيما جرى لولدها، وطلبت مني خالتي الوقوف جوار خالي بهذه الأزمة، وأخذت تعتذر لأخيها عن احتفاظهم بهذا الفرن العتيق رغم ما اسُتحدث من أفران كهربائية. أما أمي فتكفلّت بالقول أن هذا واجبي الذي سأقوم به، دون حتى أن أنتظر جزاءً أو شكوراً. لو كان عبد الله، ابن خالي، كبير السن قليلاً لرحمني من العذاب المنتظر، لكنه لم يبلغ العاشرة، ولا يمكن لبنتيه القيام بتلك المهمة، لرسوفنا في قيود التقاليد.

كانت النتيجة أن يُحيط ذراعه بكتفي من جديد، ونسير في خطى وئيدة؛ لأنه فقط لا يرغب في ارتداء “الشبشب”! لساعة تلو الأخرى كنت أنا ذلك “الشبشب” الذي يرتديه عندما يُريد أن يتمشّى، أو يذهب لمدرسته ليؤدي وظيفته الصباحية كأخصائي معامل كيمائية، رغم أنّه لا يعرف الرمز الكيمائي حتى للأكسجين. وكنت ملتزماً بانتظاره ريثما ينتهي اليوم التعليمي الثقيل، ويعود لمنزله عند آذان العصر. لم أكن أفارقه إلا في ساعات الطعام، فلم أكن أطيق طعام زوجته. لا أجد غضاضة في مساعدة أي شخص، لكن أن تكون ظلاً، مجرّد تابع يُتكأ عليه كالعكاز، فهذا أمر يصيبني باختناق. لكن لا بد مما ليس منه بد.

الجزء الثاني

بدأت الأزمة الحقيقية في عمل خالي المسائي، حيث استوديو “شوكت”، أشهر مكان يقوم بتصوير الأفراح في البلد. لا يقوم خالي بالعمل بنفسه منذ أمد بعيد، فلديه جيش من المصورين يؤدي ذلك. الاستثناء الوحيد لهذا الفعل يخص قرية “البسقلون”. وحينما استفسرت عن السبب، قال خالي إنهم لا يأمنون لأحد سواه، ومهما تقدّمت به المكانة والسن، فهو وفيّ لهم، إذ أنهّم شركاء في بزوغ نجمه وقتما كان آفلاً. و”حاولت كثيراً أن أرسل لهم مصورين أكفاء لكن الطرد كان مصيرهم. أنت مصطفى ابن أختي، وسأكون مرافقاً لك كظلّك”، وابتسم ابتسامة صفراء -لم أفهمها إلا فيما بعد- ثم أردف: وستعرف لم يخافون وجود مُصوّر جديد في مساء ليلة الخميس القادم، موعد فرح بكر ابن العمدة عثمان.

– أنا مش بعرف أصوّر بكاميرا الموبايل يا خالي!

كل حجّة لديّ تتوارى أمام حلوله السحرية. قال إن التصوير بكاميرا الفيديو ليس شاقاً. سيضبط لي هو الأوضاع والزوايا، وما عليّ غير حملها على كتفي دون اهتزاز، يد تلّفها من أعلها، ويد تثبّتها من أسفل. تصوّر أنّك تُحيط حبيبتك من خصرها، تتراقصان، وتحافظان على اتزانكما. وسأكون بين المعازيم إن وقعت بورطة ما. هكذا أعددت نفسي لملازمته مساءً أيضاً، يوم الخميس، في رحلة لتلك القرية التي تبعد عنّا قرابة الساعة.

هناك في البسقلون، استقبلونا بحفاوة وحميمية، ووجدت القرية كلّها تناديه بـ”عمي شوكت”، الرجال يضيّفونه، والنسوة المنتقبات يكشفن وجوههن أمامه. مازحته قائلاً إنه لو رشّح نفسه كعمدة لهذه القرية لاكتسح. قال إنّه فكّر جديّاً في الانتقال هنا في بداية حياته، لكن التعليم هنا ليس على ما يرام، فهي في النهاية قرية صغيرة في صعيد مصر. بعد الغداء المليء بطيبات الصعيد من بط وأوز وكشك مطبوخ وفتّة باللحمة والصلصة، وإتباعه بالشاي الصعيدي الأسود ليحبس الطعام، ذهبنا لتصوير الكتابة “كتب الكتاب”، في المسجد. وجدتُ أن الأمر ليس عسيراً فعلاً، واستهوتني الفكرة، وأنا أقلّب بين الوجوه، المعممة جميعاً بتلك العمامات الصعيدية المميزة، باستثناء العريس، المرتدي بزّة بيضاء لامعة وكرافيت أحمر غامق، ومنديلاً أزرق باهتاً في أعلى يسار جيب “جاكتته”. الكتابة كانت بمسجد القرية، والمعازيم ملأوا كل ساحة المسجد، لأن الفرح يخص ابن أهم شخصية في البلد. انتهينا، ومكثنا قليلاً ريثما يذهب العريس للكوافير لُيحضر زوجته إلى مكان الحفل. اندهشت أن بالقرية كوافير، فقال لي خالي: أنت في عام 2010. هل ثمة نجع لا يحتوي كوافير؟ التزمت الصمت، لكني بادرته قائلاً: تبقى كثير جداً من الوقت على ذهاب العريس للكوافير. احك لي قليلاً عن هذه القرية.

نظر إلى فلاح يسير في مقدمة ركب البهائم أمام المسجد، وعلّق بصره على أديم القرية الطيني غير الممهد، ثم قال:

“شوف يا ابني، الحكاية بدأت هنا من زمان قوي، من قبل ما أبدأ تصوير في الأساس، تحديداً من حوالي 35 سنة، وقتها الجماعات الإسلامية كانت لها سطوتها، يمكن سمعت أنت عن السادات، عارفك ليك في السياسة والكتابة، لمّا خرّجهم من المعتقلات علشان يضرب بيهم الشيوعيين. لكن لم يكن في مخيلته مشكلة أنّ المد الإسلامي ده محدّش يقدر يوقفّه. ماركس يقول أنّه أفيون الشعوب، ورغم نجاسة التشبيه لكنّه واقعي للغاية في مجتمعنا، خاصةً القروي منه، اللي بمجرّد ذكر لفظ إسلامي، أو ديني بشكل عام، بيتصوّر تعاليم إلهية لازم يتبعّها بالحذافير. المهم الجماعات الإسلامية تشعّبت من الجامعات اللي كانت مرتع نفوذها، وبقى ليها تواجد في كل مكان، ما هو الطالب الجامعي أكيد له مدينة بيسكن فيها، وله أهل، وأصحاب. كوّنوا زي إمبراطورية، بتحكم من الباطن، دي قتلت رأس البلد يا ابني، هو دا كان من فراغ؟ واحتلوا بعد ذلك مديرية أمن أسيوط، وكانوا يقدروا يمسكوا الحكم، إكمن بس سِنة غباء مسّتهم، وعمت بصيرتهم عن النقطة دي. ايه علاقة ده كلّه بالبسقلون وبتصوير الأفراح؟ أنا جاي لك في الكلام. روح أنت قول لأخو بكر إننا حنلحقهم في الكوافير، أنا عارف مكانه.

بعد قليل، استكمل الحكي وكأنما لم يتوقف: في الوقت ده بقى كانوا مانعين التصوير بأي صورة من الصور. قالوا إنّ الأفراح أصلاً حرام، فيها معازف وألحان وما يغضب الله، ولا بد نمنعها بأي بشكل، وفرضوا إتاوات ضخمة على اللي يعمل فرح، ده غير التشنيع عليه، وبالفعل، انقطعت الأفراح تقريباً، واقتصر الموضوع على كتابة العقد بالمسجد زي ما شفت من شوية، وبعد كده، يذهب العريس -بيكون بدقن في الأغلب- يجيبها من عند والدها، وكم واحد يضرب بالدف، وكان الله بالسر عليم. جه بقى، بعد السادات، المخفي مبارك، ده عمل إمبراطورية أمن تحميه من اللي حصل في سلفه، بالذات في النصف الثاني من الثلاثين سنة اللي حكمها، وساعده في صنع ذلك وزير داخليته المجرم حبيب العادلي، وأصبح فيه ترهيب لكل الإسلامين، بعد ما أدرك أنّه بأسلوبهم العنيف، هم فزاعة النظام، وخطره المؤرق. وبعدما كانت اللحى هي السمت الواضح لوجوه الناس، حلقوها، واكتظت المعتقلات بكِبارهم، والصغار بقوا يعملوا أفراح، عشان يقولوا لأجهزة أمن الدولة إننا مش زي أجدادنا، إحنا صايعيين أهو! وبدأ الموضوع يبقى عادة، والفكر القديم اتنسف، والعادة عبادة يا ابني.

المهم أنا مرّة رحت أصوّر هناك، عن طريق واحد معرفة. هناك توسموا فيّا خير، خاصةً أنّي مرّبي دقني، وصاحب الدقن الناس تثق به، لأنّه مفروض أنّ صاحبها شكله الإسلامي يدلّ على أخلاقه. ومن يومها، مفيش فرح في البسقلون صورّه حد غيري. تسألني واشمعنى محتاجين الثقة والأمان وواحد بس يدخل بلدهم. حقول لك، بس تعالى نقعد على البسطة اللي قدام بيت أبو فاروق دي، كلها طراوة، وتحس أنّك قاعد في تكييف، من الكافيهات الأفرنجي بتاع مصر.

هنا يا مصطفى يا ابن أختي، رغم كل الموروث الإسلامي اللي المفروض خلّفته الأجيال السابقة، إلا أنّهم ما قدروش يتخلصوا من شيء واحد: ليلة الدخلة البلدي. بتضحك ومش مصدّق أنّه لحد دلوقتي في 2010 في دخلة بلدي! لأ صدّق، وهذه مصر بلد الضدين، التدّين والفجور، الحضارة والتخلّف. هنا يا سيدي الواحد من دول بعد الفرح ما يِخلص ويِطلع على بيته، البلد كلّها تِطلع وراه على هناك، ويفضلوا واقفين تحت الباب، لحد ما العريس يخرج لهم ويمسك في يديه قطعة قماش بيضاء عليها بقع من الدم الأحمر. هنا بيصرخ الناس مكبرّين، ويهللوا، ويضرب الأب الآلي، وتُرد الدماء من جديد لوجه والدة الفتاة، لأنهّا اطمأنت لشرف بنتها المعلّق. أنا برضه ايه علاقتي بده كله؟ يا ابني ما تهدى على رزقك، ايه أم المقاطعة اللي بتقاطعها لي دي؟ دا أنا خالك، احترمني شوية، مش علشان معكزني يعني حتركبني!

أنا بعد ما بنتهي من تصوير حفل الزفاف، اللي بيكون مليء بأغاني التراث الصعيدي، والتحطيب على أصوله، باطلع على البيت لكي أصوّر غرفه، علشان العريس وعروسه يتباهيان بالأثاث الجديد وعدد الغرف أمام الناس التي ستشاهد الشريط، الشريط أصل عندي أربع أجزاء: الكتابة، الكوافير، الحفل، الشقّة. فأنا باكون شاهد مع الناس على الدخلة البلدي، والعروسة بتقعد تبوس إيدي علشان أصوّر بسرعة، لأن كل تأخير ليّا بيلهب الناس، ويقعدوا يهتفوا “اتأخّر ليه اتأخّر ليه؟ عروسته بايظة ولا ايه”؟ فكل تأخير وَبَال على سمعتها المأرجحة. فما ينفعش كذا حد يدخل عليهم بيوتهم، وإلا سرّهم حيُذاع، والبيوت أسرار يا ابني.

أصعب المواقف؟ في بنت مرة ما كانش أصلها من البسقلون نفسها. كانت من بلدة بجوارهم، ورفضت تماماً فكرة الدخلة البلدي هذه، وقالت لي: “صوّر براحتك يا عمي شوكت، إحنا حندخل بكرة”. ما صدقتهاش، وجوزها بقى مش مستوعب اللي حيقوله الناس عليهم، أصل كلام الناس أفتك من الرصاص في الصعيد. أمهّا كانت حتبوس رجلها علشان تدخل وتبيّض وشها، والبنت تصرخ في أمهّا: “أنتِ مش واثقة في ربايتك ولا إيه يا أمّا؟ روحّي بيتك، أنا مش داخلة النهارده لو طلقوتني”. ولولا عشق الزوج لها بشكل مدهش، وتصميمها بطريقة رجولية، جعلت كل المتحلقين بالأسفل يتفرقون مُحبطين، متحدثين عن جبروتها، لكان زوجها قد طلّقها. لكن لم يجرؤ سواها على فعل ذلك، وحدثت حالات طلاق كثيرة بسبب تعنّت بعض البنات، وحصل أنّه في موانع طبيّة أحياناً لنزول الدم، بس طب مين مع الناس العطشانة للأحمر تحت بيت العريس دي.

أشدّ ما أدهشني في حكاية خالي شوكت، إلمامه ببعض الجوانب السياسية، وحكمته التي لم أخاله يمتلكها، وثقافته الواسعة ومعرفته بكارل ماركس، والذي لا أستبعد اعتناقه مذهبه بذقنه تلك التي لا أحسبها تديّناً، واستطراده المتكرر، ولغته التي يدمج بها الفصحى بالعامية في رصانة، شعرت معه أنني أمام كاتب كبير، وهو يحكي عن أسطورة قرية في حضن الصعيد، وكأّنه بهذه الحكاية يكافئني على عناء مرافقتي. تعكّز خالي على كتفي، وطالبني بالإسراع، لأننا تأخرّنا على الكوافير بسبب لكاعتي، وثرثرتي. نظرت إليه في حبور، وأكملنا الطريق واليوم، وعرفتْ لم حكى لي خالي تلك الحكاية.

بمجرّد ولوجي لشقة بكر هذا، حتى رأيت وجه زوجته المطالب بالسرعة دون إفصاح، والهمهمات المتصاعدة من الأسفل تؤجج نار العجلة، بهتافات من نوعية: “بكر بكر ابن العمدة، حيجيب الدم صفايح زبدة”، ولولا أني رأيت زوجته تطالب بسرعة التصوير لكي تبدأ عملية التزاوج وإتمام الدخلة البلدي. لكنت استفسرت عن جلب صفائح الدم من قِبل بكر، وكم من أسئلة تفضح إجابتها، فالسؤال دون إجابة سر مطوي لا يُخشى منه، وخالي يُدرك ذلك، ولا يروم خسارة أهل هذه القرية العجيبة.

الجزء الثالث

مضت أيام مرافقتي لخالي شوكت، وبدأت قدمه تعود لسابق عهدها، وتوالت الأيام واندلعت ثورة يناير، وفي جلسة سمر جمعت العائلة، انتحى بي خالي جانباً، وقد كثرت بيننا الأحاديث منذ تلك الأيام، التي قرّبته مني، وصرنا صديقين حميمين، وسألني:

– فاكر يا مصطفى البسقلون، اللي رحناها أنا وأنت يوم ما كان ربنا يفتكر لي العافية؟

– وده يوم يتنسي يا خالي شوكت؟

– تعرف، بعد ما أمن الدولة سقط، بدأت الناس اللي خرجت من المعتقلات تفرض سطوتها مرة أخرى، والناس تهابها، وآخر فرح قمت بتصويره كان منذ خمسة أشهر تقريباً، لأنّهم فرضوا إتاوة خمسة الآف جنيه، على اللي يعمل فرح. والفرح بيتكلّف كم خمسة الآف؟ ده غير أنّه لا يوجد من يرغب في تصوير الكتابة وحدها.

– والدخلة البلدي؟

– دي اللي لا يُمكن أبداً تتأثّر بثورة، ولا حتى بطوفان يقتلع أهل البلد كلهم. دي أسطورتهم، والأسطورة لا تموت مهما تغيرّت الأنظمة.