وثيقة:رحلة حافلة إلى واد الناشف

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

"نص أدبي" is not in the list (أطروحة أكاديمية, إعلان مبادئ, بيان, تدوينة, تقرير صحفي, تقرير, حوار صحفي, خبر, دليل تدريبي, رسالة, ...) of allowed values for the "نوع الوثيقة" property.

مجلة كحل.png
نص أدبي
تأليف شروق نصري
تحرير غير معيّن
المصدر مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2019-06
مسار الاسترجاع https://kohljournal.press/ar/node/187
تاريخ الاسترجاع 2019-07-21
نسخة أرشيفية http://archive.is/DVJff


هذه الوثيقة هي نص أدبي من العدد الثاني من المجلد الخامس لمجلة كحل



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مجلة كُحل لأبحاث الجسد والجندر




محطة الحافلات مهجورة تقريباً. تصعدين إلى السيارة الوحيدة المتوقفة هناك – حافلة صغيرة مزدحمة قذرة، بالكاد توجد مساحة كافية لك. تمسكين بالعمود لتثبّتي قدميك فيما الحافلة تهتزّ متقدمة في الطريق. لون المقاعد أزرق داكن. تتساقط قطرات المطر ثقيلة وتصطدم بنوافذ الحافلة. تتوقف الحافلة في محطتها التالية ليستقلّها أربعة مراهقين مزعجين. أصوات صاخبة تملأ الحافلة. رائحة عطر خفيفة تختلط برائحة كحول قوية تملأ الهواء. لا يمكنك رؤية وجوههم، يتسللون من جانبك، ثم تتحرك الحافلة بشكل مفاجئ.

أحدهم يعتصر خصرك. أيادٍ خشنة تلمس شعرك وكَتِفَيك وذراعيك. قلبك ينبض بعنف. يدٌ تمسك بذقنك، وأخرى تمسك بأردافك.

غير معقول، هذا ليس حقيقياً! لا تصدقين أن ذلك قد يحدث لك.

قلبك يكاد يخرج من صدرك. تحاولين تخليص نفسك، لكن أحدهم يشدك من شعرك، رأسك يرتج. تريدين الصراخ، لكنك تعجزين عنه. تقاومين للتخلص من أذرعهم.

"ابتعد عني!"

تقولين ذلك بصوت عالٍ جداً، لكنه يبدو خائفاً. تدهشك نبرتك! يتلفظ الصبية بكلام فاحش، ساقاك جوفاوان، ذراعاك ترتعشان من كتفيك وحتى أصابعك. تحدقين في النوافذ حيث الأضواء العابرة والمطر. لا تزال الحافلة تمضي مسرعة. تشعرين بالاهتزاز والارتجاج تحت حذائك.

لا بد أن والدتك تنتظرك. إنها تشعر بالوحدة منذ تزوجت أختك، وفي جعبتها الكثير من الكلمات التي تحدثك بها حالما تدخلين المنزل. تبدو أكبر بكثير من عمرها الحقيقي؛ تجاعيد وجهها تحكي عن سنوات الحزن التي حُفرت على جلدها بعد وفاة والدك.

أحدهم يلهث ويتعرق ضاغطاً شفتيه على شفتيك. تختلط بأنفاسه رائحة الكحول المقرفة. ترغبين بالصراخ لكنك خائفة للغاية ومرهقة جداً من العراك. ثمة خوف دنيء يشوش عقلك.

قضت أمك الأسبوعين الأخيرين من حياة والدك بجانب سريره تتلو الصلوات، لكنك لم تستطيعي الجلوس، لذلك وقفتِ ساعات وساعات عند عتبة الباب أمام غرفتهما تشاهدين والدك. كان ذا وجه شاحب ومتقلص، وكان في سريره يتنفس.

تأخذين الحافلة للعودة إلى المنزل كل يوم، ولكن ليس في تمام الساعة الثامنة مساءً. إنما كان لديك موعد مع الأصدقاء في أوفيون، مقهاك اللطيف المفضل القريب من الجامعة. كان المقهى يعج بأصوات مختلطة تبدو كالرسوم المتحركة، تتماهى مع آلات صنع القهوة. رائحة القهوة السوداء تطغى على المكان. كنت ترتدين تنورة زرقاء طويلة وقميصاً أخضر لتلك المناسبة، ابتعتِهما من مركز تجاري جديد من منحتك الدراسية. كانت المرة الأولى التي تشترين فيها شيئاً بأموالك الخاصة.

شخص ما يخور من الإثارة. لا تطيقين ذلك.

تناولتِ القهوة مع الحليب في كوب قصير وواسع من البورسلين الأبيض. وكالعادة، أكلتِ تشيزكيك، واستمتعتِ بكل قضمة.

كتبتِ على فايسبوك: "أستمتع بالقهوة والتحدث مع ضياء وإحسان في أوفيون".

هذه هي أفضل أيامك كطالبة جامعية، تحبين تخصصك في اللغة الإنكليزية. تريدين أن تُتقني اللغة تماماً. تحبين مشاهدة "أخبار العالم" على "بي بي سي". تحاولين العثور على وظيفة صحفية هناك، وهو حلم مستحيل، لكنك تخوضين فيه على أية حال. تظنين أنك تمتلكين الوقت لتكوني واقعية متى انتهيتِ من دراستك.

تحدثتِ عن الأساتذة والتفاصيل الصغيرة في الجامعة، عبرتِ عن رأيك تماماً.

أحدهم يحشر يدَيه تحت قميصك. بكيتِ!

ضياء وإحسان تبحثان باستماتة عن القاعة رقم ٣٣، وأنت كذلك؛ القاعة التي ستكون فيها محاضرتك الأولى، محاضرة الأدب. لم ترغبي أن تتغيبي عنها إطلاقاً، لكنك تأخرت حينها، وعندها بدأت صداقتك معهما. كان التأخر سبب تعارفكن.

"أنا معجبة بالأستاذ ملوكي"، قالت ضياء. "إنه معلم جيد حقاً". "نعم، أنا أحب محاضرته أيضاً"، أضفتِ. "لديه أسلوب في شرح الأشياء يجعلك ترغبين لو تستمر محاضرته إلى الأبد". "أنا أحب الطريقة التي يستمع بها إلينا ويشجعنا على التحدث"، أيدت رأيك إحسان. "أنا أحب لهجته!"، قلتِ. "لديه وجه لطيف"، أشارت إحسان. "إنه جذاب للغاية! هل هو متزوج؟"، سألت ضياء ضاحكة. ثم قالت إحسان: "أحظى بالكثير من المرح في حصة الأستاذ هلال". "أوه! نعم، لا سيما عندما يأخذ وجهه وضعاً جدياً ويصدر صوتاً مزيفاً أشبه ببرامج التلفزيون". "تقصدين الأستاذ شارب كبير؟"، مازحتك ضياء. ضحكتِ ضحكة عالية النبرة، لَفَتَت أنظار جميع رواد المقهى إليك، لكنك لم تستطيعي مقاومة الضحك. ضحكتكِ أصبحت أعلى وأعلى.

أحدهم يفك أزرار تنورتك.

لديك إدراك مقزز للوجوه المتشاغلة عنك في مقاعد الحافلة. كلهم ينظرون إلى هواتفهم كأن شيئاً لا يحدث هنا.

تحدثتنّ أيضاً لساعات عن الحب. قالت إحسان إنها لا تعرف ما هو؛ فلم يسبق لها أن وقعت في الحب. تعرفين أنت ما هو الحب، الشيء الذي يُشعرك بالخفة حتى في أحلك الأوقات. كثيراً ما تكونين واقعة في الحب، لكنك في هذه الأيام لا تملكين وقتاً للحب في ظل انشغالك؛ محاضرات الجامعة، وأصدقاؤك الجدد، طريق الحافلة اليومية إلى المدرسة ثم إلى المنزل. قد تجدين وقتاً للحب في يوم العطلة.

عرق ودموع ساخنة تنهمر على خديك.

جلست بالقرب من النافذة. ليس المشهد هناك مذهلاً بشكل خاص، لكنك تحبين مشاهدة الناس وهم يُهرعون إلى أعمالهم وحيواتهم بينما تستمتعين أنت باللاشيء في الأثناء.

أحدهم يشبك يديه حولك ويحفر أصابعه في أضلاعك.

هذا غير حقيقي!

أحدهم يضع يده داخل ملابسك الداخلية.

تقفين مرتجفة. أسنانك تصطك ببعضها البعض. تقررين تصغير جسدك كحجر. تلفّين أطرافك العليا وتطوينها نحو الأسفل بحيث لا يستطيع أحد رؤيتها.

قهقهة. قهقهة أخرى.

ضحكك ملأ المقهى.

طلبتِ من أصدقائك مرافقتك إلى محطة الحافلات التي تستقلّينها. منزلك يقع في محطتها الأخيرة. إنه مساء جمعة ممتعة في أواخر تشرين في الخريف، حيث الأيام أقصر وأقصر، والسماء زرقاء داكنة، والقمر يتوارى بين الغيوم، فيما لا تزال الأوراق متشبثة بالأشجار وتتبدل إلى لون مختلف. تحبين هذا التغير في وجدة. يمكنك المشي وحيدة لمسافات طويلة دون أن يعترضك أحدهم بكلمة قذرة، لكن الأمور مختلفة في واد الناشف!

تبطّئ الحافلة مرة أخرى، لكنها لا تتوقف في المحطة التالية. يكمل السائق طريقه، فلا ركاب ينتظرون النزول هناك. تستمعين إلى هطول المطر ودويّ الرعد، تستمعين إلى ضحك والِدِك منذ وقت طويل. في غضون وقت قصير ستسيرين في الشوارع الملتوية التي تصل إلى منزلك، تشقها نُهيرات المياه القذرة، فيما والدتك تترقب قدومك من النافذة.

واد الناشف – أو بالفصحى الوادي الجاف.

ربما مر النهر من هنا يوما ما. الآن لا نهر هنا.

سيكون بالي، شمكار (متشرد) الحي الرسمي، يتجول ويتحدث إلى نفسه في الشارع.

أصوات أنين عالية.

يداك زلقتان من العرق. تشعرين بالعطش. أنت منهكة ومتهالكة الأنفاس. يداك وقدماك تهتزان، وأنت تضغطين على أسنانك.

لو كنتِ بقيتِ في المنزل اليوم لما حدث هذا أبداً.

لا – هذا لن يحدث.

إحدى ذراعيك منفصلة ومرمية على حضنك. تنهارين. جسدك كومة من الأشلاء المرمية على أرضية الحافلة. أربعة مراهقين يتشاجرون على الأشلاء. أُذُناك، رُكبتاك، أصابع يديك وقدميك، ثدياك… كلها قطع من جلد عارٍ.

هذا ليس حقيقياً.

محطة حافلات أخرى.

شخص ما يصعد إلى الحافلة. إنها أمك. تبدو مختلفة، جميلة بشكل لا يوصف.

تنظر نحو الصِّبية بغضب، ودون أن تنبس بكلمة، تنتزعك من أيديهم ثم تضعك بلطف في جيب جلبابها الأخضر الرمادي الناعم الدافئ. بعد ذلك تسحقهم بيدها اليمنى، ترميهم من النافذة المفتوحة، ثم تغادر الحافلة.