وثيقة:لم لا أكتب؟

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

اختيار.png
مقالة رأي
تأليف مجهول
تحرير غير معيّن
المصدر اختيار
اللغة العربية
تاريخ النشر 2019-02-19
مسار الاسترجاع https://www.ikhtyar.org/?page_id=21699
تاريخ الاسترجاع 2019-02-20
نسخة أرشيفية https://archive.fo/Lq4j7


نُشرت هذه المقالة ضمن الدورية 7 المعنونة "مُثقلة بالهشاشة" هذا النصّ موجود كذلك في ملف:لم لا أكتب؟.pdf



قد توجد وثائق أخرى مصدرها اختيار



نبذة عن الكاتبة:

باحثة يسارية نسوية من القاهرة، مشغولة بقضايا العدالة الاجتماعية في المدينة. أكتب وأرسم للتعافي من الحياة، ولفهمها أحياناً. أهوى الجدال، وإزعاج المتنمرين، والنوم.

⁂   ⁂   ⁂

«بالنسبة لي، أن أكتب عن تجربة هو أمر مؤلم، لأن هناك جرحًا، وفيه قشرة متكونة. لأكتب عليّ أن أنزع القشرة، وأعود إلى الألم والدم» 1. غلوريا آنزالدوا

أتذكر حين قررت أن أبدأ الكتابة في إحدى مراحل التعافي من الثورة. لم أرسم خطة واضحة، لم تكن كتابتي لهدف سوى التعامل مع هذا الما حاولت الكتابة -عن تجاربي، أو عن المجتمع أو عن الثورة والحياة- أجدني لا أستطيع التفكير بعيدًا عن يوم واحد يلح علي كتابتي بشكل أو بآخر. كان ليوم مقتل قريبي وصديقي الذي يصغرني بست أعوام دور كبير في شعوري بمسئولية حمايته. يومٌ تمثلت فيه كل صراعاتي. يوم رأيت فيه صغيري بجسده الذي رفض النمو بشكل يحميه من سخافات الذكور فظل حتى الموت قصيرًا نحيلًا كمراهق لم يتجاوز الثالثة عشرة ملفوفًا بالبياض بعد أن تلقى رصاصة أهدرت حياته، فكان خسارة جانبية لصراعٍ سياسي كلا جانبيه أبطال وأشرار وشهداء وأوغاد في آن واحد. يوم جلست في ميدان يمتلئ بآلاف البشر على الأسفلت وسط أرجل النساء اللاتي يؤدين لصلاة الجنازة، حيث كنت لا أصلي، بل أنظر إلى وجوههن الباكية الخائفة والمؤمنة إيمان اليقين، وهي تقف وتركع وتسجد، بينما أنا أنقل نظري بينهن وبين السماء وأتيقن لأول مرة أنني لم أعد أنتمي إلى هذه الحالة بأي ذرة داخلي. لا أرى نفسي فيهن بأي شكل، لا أشاركهن أي فكرة، فقط أراقبهن في حزن وخوف وإشفاق، كغريبة مشوشة لا تعرف في ما تفكر. يوم لم يحتمل رفيقي أن يظل بعيدًا ففاجئني أمام المشرحة لأتسلل معه إلى شوارع زينهم بعيدًا عن هذا الوجه الآخر لحياتي، وأحتضنه في شوارع لا تقبلنا دون تردد. يوم انهارت أمي من البكاء لحظة عودتنا للبيت بعد أكثر من عشرين ساعة قضيناها بين مشرحة ومقبرة، لا لفجاعة ما حدث أو ما سيحدث، لكن لأن مشهد بنات العائلة حولنا ذكرها أنني الوحيدة التي تجرأت على خلع حجابها وعفتها. يوم اتهموني بقتله فقط لأنني علمانية، لأنني العدو الذي حتمًا يسعى لفنائهم. لم يكن مرحبًا بي في حالة الحزن الجماعي التي جمعتهم كعائلة تشاركت مسار الحياة لسنوات، لا مكان لي وسط جلسات حميمية لسرد ذكريات مشتركة جمعتنا. لا مكان لروايتي عنه، فالرواية الأكثر ملحمية ونقاءً صنفت رواية وحيدة لحياة الشهيد.

أقرأ كثيرًا تعبير «سرقة أصواتنا» وأشعر بثقله في أعماقي.

لم أكتب عن هذا اليوم قط قبل الآن، لم أستطع تحمل الألم. لم أكتب عن أي يوم قط. واليوم حين أتذكر هذا اليوم، يلوح بذاكرتي مشهد آخر، مشهد صديق تصادف وجوده بالمشرحة ظل معنا طوال اليوم، وحمل أخي المقتول على كتفيه لينقله للداخل، فسقطت قطرات الدم على جبته الصلعاء التي أمسحها بيدي. أصبحت الذكرى أثقل على النفس الآن، مات صديقي ذاك فجأة في منامه بعدها بشهور دون أن أودعه. ليس هذا هو اليوم الوحيد، وليسا وحدهما من فقدت. تحمل أيام الثورة وما تبعها من تخبط آلامًا مشابهة لي وللكثيرين. كيف لنا أن نكتب دون المرور بكل هذا الألم والفقد والتخبط والخذلان؟ هل نتعافى بالكتابة كما يعدون؟ أم نعتاد الألم، نحترف فتح الجروح والنظر إليها مدركين أننا سنتابع حيواتنا حاملينها معنا دون أن نفقد أنفسنا في هذا الألم المعتاد؟

...

أملك في عقلي عشرات المشروعات للكتابة، أفكر في الكتابة طوال الوقت، أفكر في الكتابة لأنني لم أعد أثق في ذاكرتي. أرغب في التوثيق حتى لا أفقد إدراكي لأحداث الحياة من حولي، إو إدراكي لنفسي مع الوقت. لا يمنعني فقط خوفي من كشف الجروح، فالجروح قليلًا ما تكون غائرة بهذا القدر. لكن دائمًا يمنعني خوفٌ ما.

أرغب في الكتابة عن مجتمعات عرفتها وعايشتها، عن نساء ورجال يُختزلون في انتمائهم للأقليات والمهمشين والمضطهدين؛ عن مشكلاتهم وآلامهم وأحلامهم. لكنني أخاف أن أنسى المسافات بين حياتي وحياتهم، أشعر بوقاحة ادعاء أنني أفهم ما يعانوه بينما لم أكنه أبدًا. أخاف أن أخذلهم، أو أخذل نفسي، أو يخونني التأويل.

أرغب في الكتابة عن حياتي كامرأة تعيش هنا والآن، عن علاقتي المعقدة بجسمي والعالم. عن أمي. عن أبي. عن أبي وأمي معًا. عن خوفي من أن أصبح صورة باهتة من أحدهما، بلا طموح أو إنجاز أو شغف. ثم يمنعني خوفي من جرحهما. دائمًا ما تحوي تجاربنا بشرًا آخرين، نحبهم أيضًا كما نحب أن نجد لأنفسنا إيقاعًا متزنًا بالكتابة عن صراعاتنا معهم. تلك التجارب ليست تجاربنا وحدنا. الوعي بذلك يخيفني.

...

ربما أخاف أحيانًا من أن يخرج الكلام مكررًا ومبتذًلا. لن أضيف الجديد، فكل المشاعر اختُبرت، وكل الأفكار نوقشت. وليست آلامي الأفظع ولا خواطري الأهم. أشعر أحيانًا بأنني مدينة للعالم بأن تكون تجاربي مكتملة تمامًا، أفكاري ناضجة تمامًا، إضافتي أصيلة دائمًا، لتستحق أن تُكتب.

أو ربما يكمن الخوف الأكبر في أن أفقد القيمة أثناء الكتابة. أن تصبح الكتابة في ذاتها أهم من المعاني. أن أفتتن بالصياغات، بالرغبة في أن أبدو أذكى أو أنقى أو أفضل مما أنا عليه. أن أفتتن بجمهورٍ ما أكتب له، حتى وإن كان في مخيلتي وحدي.

...

أبدأ كل يوم بنية بدء الكتابة. تدور في رأسي الكثير من الحجج لصالح الكتابة. لكنني اليوم قررت أن أواجه هذا السؤال الملح المؤجل «لماذا -على الرغم من كل شيء- لا أكتب؟».