وثيقة:حكايات الإجهاض - إجهاض ومطاردة أمنية

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Mada Masr Logo.png
شفهي
العنوان حكايات الإجهاض: إجهاض ومطاردة أمنية
تأليف غدير أحمد
تحرير غير معيّن
المصدر مدى مصر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2017-10-24
مسار الاسترجاع https://www.madamasr.com/ar/2020/09/27/feature/مجتمع/حكايات-الإجهاض-إجهاض-ومطاردة-أمنية/
تاريخ الاسترجاع 2021-09-26


الحكاية السادسة في سلسلة حكايات الإجهاض.



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر



تنويه: الوقائع والأوصاف الواردة في هذه القصة قد تسبب استجابة عاطفية قوية أو مُحفّزة للألم.

القصة كما روتها صاحبتها، وفي بعض المناطق تنقل الكاتبة عنها نصًا.

فكرت لو اتقبض عليا، إني مش هقدر أواجه فضيحة إني مقبوض عليا في قضية شواذ وكمان حامل من غير جواز. وأهلي يعرفوا إني حامل. والدنيا كلها تعرف إني حامل. كنت خايفة الناس ميتعاطفوش معايا. ولا أولد في السجن.

مارست العمل العام بعد يناير 2011، بين أنشطة طلابية وانخراط مع منظمات حقوقية. قضيت سنوات أصارع أسرتي حول نزع الحجاب، وحول الانتقال من منزلهم لأعيش بمفردي. مرّت سنوات. خلعت الحجاب. أقنعت عائلتي بالانتقال. خلال السنوات ازداد نشاطي العام، وازدادت القضايا التي أؤمن بها، وتوطدت علاقاتي مع مجموعات مدنية مختلفة، وابتعدت عن أخرى. سنوات بين تظاهرات ووقفات وهروب من عربات الشرطة في الشوارع، وبين صراعاتي ومشكلاتي الشخصية. في إحدى السنوات، اختفى الخط الفارق بين حياتي الشخصية ونشاطي العام. يومًا ما، انقضّ عليّ كلاهما، وكان عليّ مواجهتهما معًا في نفس المكان. شقة صغيرة في حي المقطم، كنت سأنتقل إليها بعد قبولي في وظيفة جديدة واستعدادي الانتقال لمنزل جديد.


كنت بخطط للبيت الجديد ومتحمساله. فالبيت الجديد بقي زي الحصار. بكرهه. ولما بعدي من المنطقة بفتكر كل حاجة. أنا انهارت في كل مكان في البيت ده. فاكرة تفاصيل كل حاجة. وفاكرة الشقة، وفاكرة العفش.. فاكرة لأن حياتي كانت… أو حياتي كانت انهارت بالفعل. كل حاجة باظت في يوم واحد، لأ وقاعدة مستنية أمن الدولة ياخدوني في أي لحظة.

لماذا؟ امممم؛ لأنه في يوم حضرت فاعلية مع مجموعة من الأصدقاء تصادف أن أغلبهن/م يعرّفن/ون أنفسهن/م بأنهن/م كوير- أي أصحاب ميول جنسية وهويات جندرية مختلفة. تُداولت صورنا خلال الفاعلية على الإنترنت، ثم انقلب الرأي العام ضدنا؛ لأن مظهرنا العام أوحى لهم أننا «شواذ وشاذات». انقلبت الدنيا. قبضت الشرطة على أصدقائي وصديقاتي وصدر ضدي أمر ضبط وإحضار، لأن الشرطة لم تجدني في محل سكني في منزل أسرتي بعد استقلالي عنهم، وعدم تغييري عنواني في بطاقة الرقم القومي. عُرفت قضيتنا إعلاميًا أنها قضية الشواذ اللاتي والذين سيدمرون نسيج المجتمع، وينشرون الفجور والفسق. الموجة أعلى من مواجهتها. وعليّ أن أتعامل بأن اسمي مضموم لقضية ستصمني وتصم عائلتي للأبد، وأن صورتي تظهر في البرامج يوميًا كمجرمة. قضيتنا حساسة وذات وضع خاص، ولم يكن هناك منفذ لأي بطولة سياسية في مناخ يعتبر قضايا النساء والكويريات/ين غير ذات أهمية.


لقيت ماما بتتصل بيا: «ألو أيوة، البوليس كان هنا.بيدوروا عليكي. كانوا عايزينك. جايين معاهم ميكروباص وعساكر كتير.» أنا أهلي عايشين في حي شعبي. عادة لما الشرطة بتروح أحياء شعبية بتخاف يبقى فيها بلطجية ونوش. فابيبقوا رايحين بعدد كبير إرهاب للناس. ده كان منظر مهيب لأهلي. بنتهم اللي عندها 21 سنة البوليس جاي ياخدها الساعة 2 الفجر. ودي كانت حاجة أول مرة تحصل في حياة أسرتي: إن بوليس يروحلهم البيت. كانوا خايفين جدا.


بعد المكالمة، خِفتُ من تجربة السجن هنا، والآن، ولأني مهما دافعتُ عن نفسي ضد تهمة ليست تهمة، لن أجد عدالة تنصفني. تحوّل مسكني الجديد إلى مكان لا أغادره ولا يدخله أحد، وتغيرت كل خططي وترتيباتي للوظيفة الجديدة والبيت الجديد إلى كيف سأنجو من هذه المصيبة. كسرت هاتفي. أغلقت فيسبوك وتويتر وأي حساب على الإنترنت. أتواصل مع أمي من هاتف شريكي. هو الوحيد الذي كان يزورني مع صديقتي المقربة. كنت بخاف أطلب السوبرماركت.. باترعب من أي حاجة بتحصل حواليا. طول الوقت مش عارفة أنام. أي صوت بسمعه حتى لو قطة ع السلم بتخيل إن ده بوليس جاي يقبض عليا.

تأخرت دورتي الشهرية، وظننت أنه تأخير بسبب الضغط العصبي. طلبت من شريكي شراء اختبار حمل منزلي في زيارته التالية. كانت أول مرة تتأخر دورتي الشهرية، وأول مرة أستخدم اختبار حمل. توقعت أنه سلبي خاصة أن المرة الأخيرة التي مارست فيها الجنس مع شريكي آنذاك كانت قبل أسابيع. كانت النتيجة إيجابية. اتخضيت. فضلت كتير في الحمام. أنا واقفة قدامه كده: ايه؟ أكيد ده مش بيحصل في الوقت ده من حياتي. طلعت. قولتله بوسيتيف. صمت كده ساد المكان لثواني. وبعدين قالي اهدي وهنلاقيلها حل.

طلبنا مندوب من معمل تحاليل لنتأكد من النتيجة ونعرف مدة الحمل. خمسة أسابيع… امممم أوكى! أول شيء فكرت فيه هو حبوب تحفيز الإجهاض خاصة إني في بداية الشهر الثاني. سنشتري الحبوب وسأجهض في هذا الحصار. ستكون نسبة الخطأ صفر بالمائة. فلا يوجد خيارات ولا احتمالات أخرى في هذه الظروف.

حصلنا على الحبوب من صيدلي تعرفه صديقتي. استلمها شريكي وعرف تعليمات الجرعات. بعد أول جرعة، فتحت متصفح الإنترنت. أقرأ عمّا سيحدث، عن كيف تعمل الحبوب، وما الذي سأشعر به، ومتى أشعر أن حياتي في خطر. أربع ساعات لم يحدث خلالها إلا تقلصات محتملة. أنظر إلى الفوطة الصحية كل ربع ساعة. لا شيء. بعد الجرعة الثانية، بدأ مغص شديد بلا نتيجة أيضًا. جرعة ثالثة والنتيجة هي هي. تواصلت مع صديقة صيدلانية ونصحتني أن أتوّقف عن الجرعات لمدة أسبوع لأن الجرعات التي أخذتها قد تؤثر عليّ سلبًا. بعد أسبوع، نفس الثلاث جرعات ونفس النتيجة: لا شيء. انتظرت أسبوع آخر، وهذه المرة غيّرت الحبوب المستوردة إلى النوع المصري. نفس النتيجة: فشل. الحمل ثابت.

قاربت على فقد هدوئي على مدار الأسابيع. أصدقائي يُقبض عليهم/نّ. تصلني أخبار عن تعرضهم/ن لفحوص شرجية وكشوف عذرية في السجون. برامج التليفزيون تستخدم صور الفاعلية، ومن ضمنها صورة واضحة لي وتُحرض ضدهم. الجميع ضدهم. لا أعرف هل سيكون مصيرهم السجن حتى الموت كغيرهم، أم سيقضون فيه سنوات يخرجون بعدها لحياة اجتماعية ترفضهم وتصمهم للأبد. في كل الحالات كان التنكيل بهم اجتماعيًا وأمنيًا يرعبني. أفكر إن كان تعرضي لكل ذلك سيُضاف عليه «فضيحة» أنني أمارس الجنس دون زواج، وحامل. ستُدمر حياتي وحياة أسرتي. يتملكني الخوف أكثر فأكثر. لا أعرف إن كان فشلي في الإجهاض بالحبوب يعني أني أحتاج إلى عملية إجهاض، ويحاوطني هوس القبض عليّ أثناء الحمل. كابوس على كل المستويات. طلبت من صديقتي المقربة استشارة صديقة لها إن كانت تعرف أطباء أو طبيبات قد يساعدونني في أقرب وقت. ثم جاء اسم طبيبة نساء وتوليد ليطمئنني قليلًا. لزيارتها، كان يجب عليّ الخروج من البيت. لم يكن هناك حلول أسهل من المساومة على أمني الشخصي وسلامتي الجسدية.

طلب شريكي سيارة أجرة من حي غير الذي أسكنه، ثم طلب من السائق الذهاب إلى عنواني. ارتديت ملابسي، غيّرت ربطة شعري، ووضعت نظارة شمسية كبيرة على وجهي. هاربة من الشرطة ومن عائلتي ومن معارفي ومن خوفي ورعبي أن تنتهي حياتي وأنا مسجونة أو مخطوفة في أحد مقار الأمن الوطني. أن يُقبض عليّ أثناء الحمل، ووقتها لن أتمكن من الإجهاض أبدًا. أضع طفلي في السجن، يحمل وصمة القضية ووصمة أنه طفل غير شرعي طيلة حياته. طفل لا أريده، ولم أرغب فيه. لكننا سنعلق سويًا بحكم القاضي وأمر المجتمع.

توقّفنا في شارع موازٍ للمكان الذي سأقابل فيه الطبيبة. طلبت من شريكي أن ينتظر بعيدًا.

بنظرات من أعلى لأسفل والعكس، سألتني: «كيف حدث الحمل؟». تؤ! لماذا تسألني كيف حدث حمل إن كنت أقابلها أساسًا لإتمام إجهاض؟ وما الذي انتظرته من إجابتي وتخيلت أنه سيفيدها في إجهاضي؟ كانت جافة وردودها مقتضبة مليئة بالوصم. أخبرتها أن الحمل حدث بالخطأ، وأني في العادي آخذ احتياطي جيدًا. نهرتني وقالت لو أني آخذ احتياطي فعلًا لما حملت! أهذه طبيبة نساء وتعرف أن منع الحمل بأي وسيلة لا يضمن عدم حدوثه؟ ما هذه الأحكام؟ وما هذا الأسلوب؟ ابتلعت ريقي. كنت بحاجة إليها وبأي طريقة تخلصني من الحمل.. قالت سنبدأ في الجرعات مرة رابعة، وستتابع معي على واتساب خطوة خطوة.

بعد الزيارة، سألت صديقتي إن كانت قالت لصديقتها التي أوصلتنا بالطبيبة أي شيء عن القضية. حاولت إيجاد مبرر لحكمها الأخلاقي وأسلوبها الفج. أقسمت صديقتي أنها لم تخبر صديقتها، وبالتالي لا تعرف الطبيبة شيء. حاولت التركيز على مشكلتي وبدأت الجرعة الرابعة. اتبعت تعليماتها: استخدمت كلمة دورة بدلًا من إجهاض. لم استخدم اسمها نهائيًا في محادثاتنا كما طلبت منّي. لم يحدث شيء كالمرات السابقة. راسلتها : “الدورة منزلتش يادكتورة.” طلبت مقابلتي. كررنا نفس ترتيبات الزيارة السابقة: شريكي يطلب تاكسي في حي بعيد عن مسكني، يتوجه إلى عنواني، وننزل في شارع موازٍ لمكان المقابلة. كتبت لي اسم حقنة على ورقة بيضاء لا تحمل اسمها أو هاتفها أو مكان عملها.

قالت لي هتاخديها في الصيدلية. دي بياخدوها مرضي الأورام. ولو واحدة حامل بتموت الجنين. ممنوع الحوامل ياخدوها. هتاخدي الحقنة وبعدها بليلة أو ليلتين هتعيدي الجرعات. هيكون الحمل مات، وإجهاضه أسهل.

دخلت لآخذ الحقنة ورددت الصيدلانية: «انتي صغيرة. ألف سلامة عليكي يا حبيبتي. ربنا يشفيكي. لا حول ولا قوة إلا بالله.» بيتهيأ لي لو عرفت إني باخدها عشان أجهض كانت هتقولي اطلعي برة.

كررت الجرعات. لم يحدث شيء. راسلتها فطلبت مني أشعة سونار. وصلت للأسبوع الحادي عشر. فقرة أدائية أخرى في معمل الأشعة. سألني الطبيب هل هناك مشاكل مع الحمل؟ رسمت الحزن على وجهي وأخبرته أني أنزف وطلبت طبيبتي السونار. قال مُبتسمًا وكأنه يُبشرني: البيبي زي الفل. صُدمت. أنا أخذت جرعات كثيرة لإجهاضه، وحقنة تُسبب سقوط الحمل. زي الفل إزاي؟ أدّيت أداء الزوجة السعيدة لأن حملها ثابت، وبداخلي غضب الدنيا. أرسلت صورة السونار للطبيبة.

قالتلي: انتي كدة لازم تعملي عملية. الحمل كبر والأدوية مش هتنزله. سألتها: طب أجيلك امتي وهنعمل ايه؟ قالت لي: لأ أنا مبعملش عمليات من النوع ده!

قولت لها يعني ايه؟ مكنش في احتمالية ان الحمل مينزلش؟ قالت لي: «كان في احتمالية بس كان المفروض يموت. فلو مات، هتقدري تروحي أي مستشفى وتجهضي، لأنه فيه خطر على حياتك، وقانونا محدش هيلومك.» في حين انه لو روحت اعمل كده في مستشفى هيطلبوا يشوفوا قسيمة جواز حتى لو بعد العملية. مقالتليش انها مش هتكمل معايا للآخر. فاقولتلها طب رشحي لي دكتور وانا اروحله. مرشحتليش حد. حسيت انها بتلبسني كده فجأة وباعتني.


لم تكُن صريحة من البداية. لم تخبرني أن مساعدتها محدودة ومقتصرة على واتساب وزيارتين، خاصة أنها طلبت مني 2500 جنيه وصممت أن تأخذهم مني مقدمًا. عندما قالت «مبعملش عمليات من النوع ده»، رنّت العبارة بداخلي وتذكّرت وصمها لي. وبّختني كأنها تملك مصيري. وقبلت التوبيخ لأني صدّقت. وعندما جاء مصيري في عملية إجهاض، قالت: «النوع دة».. أي نوع يا دكتورة؟ وماذا تُسمين نصائحك ومتابعتك معي؟

شكرًا، لأنك زوّدتي شعوري بالذنب والوصم. كنت بالفعل ألوم نفسي قبل زيارتك. أشعر بأنني مهملة ومتسببة في الحمل. عندما اتهمتيني بالإهمال، لم أعترض. أنا لم أعترض يا دكتورة، وأنا أعترض على كل شيء وأي شيء. وأصلًا أحد أسباب وجودي في هذا الموقف هو أنني أعترض. اعترضت على عائلتي. اعترضت على انتهاكات النظام. اعترضت على تربية أهلي وأن الجنس لا يُمارس إلا بالزواج. اعترضت على معايير تقول أن مَن تمارس الجنس مذنبة ومخطئة. لكني لم أعترض على ما فعلتيه. كان الاعتراض رفاهية. كنتِ ملاذًا لأنك طبيبة. ولأني أخيرًا لن أعتمد على نصائح الأصدقاء.

أيام تمرُ والحمل يكبر والمطاردة مستمرة والخوف سيّد الموقف. أيام طويلة وليالٍ قضيتها وحيدة في سجن ما زال أهون من سجن القناطر. حفظتُ الجدران، عدد بلاطات السيراميك، الأواني، الأنتيكات. شغلت نفسي بالطهي والتنظيف. كنت بحاجة لشيء أطارده أنا الأخرى حتى لا أصاب بالجنون. طاردت التراب يوميًا. رغم الأبواب والبلكونات المغلقة، أرى حبّات التراب هنا وهناك وأحاربها كأنها عدو. أقضي عليه لأراه ينتقل من فوق الطاولة لتحت الأريكة. هذا التراب ملعون. كلما مرّت أيام أشعر بشيء ما في بطني. هناك شيء يحاول التواصل معي. شيء أعرفه. شيء أقاومه وأنا لست متأكدة ماذا أشعر تجاهه. أتحسس بطني، أرى قطرات اللبن في السوتيان، وتنتابني مشاعر مختلفة من الحزن والذنب والحب. كما لو أن هذا الحمل يخترقني.

لم يكن الحمل أنيسًا لي في عزلتي. كان الشعور بالذنب يُزيد الأمر وحشة ورهبة. تطورت علاقة بيني وبينه بفعل الحبس ومرور الوقت، أتحدث إليه، أعرف جنسه. كان ذكرًا كما أخبرني طبيب الأشعة. لم يعد مجهولًا، وأصبحت له هوية بشكلٍ ما. ربما لو ظل مجهول لكان الوضع أسهل. بعد الشهر الثالث، بدا كأنه طرفًا في صراع معي. كان فاعلًا وكنتُ المتحكمة. يكبر ويتمسك بي وأنا أرفضه، وأحاول بكل جهدي أن ينتهي. معركة بقاء خضناها سويًا، ولم نكُن على ذات الجانب. كنّا طرفين متقابلين، يحارب كلٌ منهما الآخر لينجو.

برحمي ولد يكبر ويتغذى عليّ. كانت الفكرة مؤرقة، لأنه لن يولد بأي حال وأي ثمن. لو كنت أخطط لوجوده، ربما كان ضعف جسمي نتيجة الحمل له مكافأة لأني سأراه أمامي. ربما سأفرح به ومعه. لم تكُن الأمور هكذا. كانت العكس. أحيانًا أعتذر له كأنه يسمعني. أشرح له ظروفي ولماذا ستفشل محاولاته للنجاة أمام إصراري على النجاة بنفسي أولًا. ربما لو لم يطل الوقت لما أصبحت علاقتي به مرتبكة يُشكّلها الذنب.

بدأ الأسبوع الثالث عشر، وبدأت بطني في الانتفاخ أكثر. أتحرك من المنزل لأرى عائلتي في أماكن عامة بعيدة عن مسكنهم ومسكني قبل أن أمتنع تمامًا عن رؤيتهم بسبب ظهور الحمل وأتحجج بالخوف من الشرطة. أوشكت على الانهيار. زرتُ طبيبتي النفسية بعد انقطاعي عنها منذ بدء القضية. أوصلتني بصديقتها التي أوصلتني بطبيب نساء وتوليد ورافقتني أثناء الكشف. سألني الطبيب عن مدة الحمل. خفتُ من الوصم مرة ثانية وشعرت بالاضطرار لشرح سبب انتظاري أربعة أشهر. لم يسألني عن الأسباب، فشعرتُ بالراحة. أخبرني أن فعالية الحبوب ضعيفة في الشهر الرابع وأن الاحتمال الأكبر هو خضوعي لعملية إجهاض، لكنه سيحاول. أعطاني قرص دوائي لآخذه قبل حضوري للعيادة بـ12 ساعة لأكون تحت إشرافه. تناولت القرص وأنا لا أعرف اسمه ولا وظيفته. قال الطبيب أنه يُهرّب إلى مصر ولا يُباع لأنه مصنف كمحفز إجهاض قوي.

أخدت القرص اللي انا معرفش ايه هو. معنديش حتى إمكانية ان انا اسيرش على الحبوب اللي انا باخدها دي ولو تعبت وحصلي أي حاجة، مفيش حد غيره عارف انا واخدة ايه. كنت بنبه شريكي لو حصلي أي حاجة خليتني مش في وعيي، يتصل بيه هو بس. مفيش حد تاني هيعرف انا فيا ايه.

في المستشفى الخاص كانت الأجواء هادئة نسبيًا. لا أحكام أخلاقية أو نظرات سخيفة. بدا الوضع القانوني مطمئن. لم يكُن هناك ترتيبات خاصة إلا إقرارًا بأني سأجري عملية «كحت للرحم» أعطته لي السكرتيرة لأوقعه بعد اطلاعها على بطاقة هويتي. لم تسألني عن عقد زواج، ولم أشعر باختلاف كبير عن النساء الحاضرات. معظمهنّ حوامل أو أتين للولادة. ولا أعلم إن كان ذلك بسبب أني وصلت للطبيب عن طريق «واسطة»، أو أنه يُجري عمليات إجهاض بشكل اعتيادي، لكنه ما زال سريًا. كلّفنا الإجهاض حوالي عشرة آلاف جنيهًا. دفعتُ نصفهم وتكّفلت صديقة طبيبتي النفسية بالنصف الآخر.

وصلتُ غرفتي وانتظرت الطبيب. حضر ومعه محفز الإجهاض الذي استخدمته أول مرة. أعطاني الجرعة وانتظرت أربع ساعات أقرأ خلالها عن تبعات عمليات الإجهاض. ورغم أنها نادرة ومستبعدة، إلا أن الخوف دفعني للقراءة. أفكر ماذا سيحدث لو فشلت جرعة الحبوب للمرة الخامسة، وهل سيكون هناك وقت كافٍ لأتعافى قبل أن تجدني الشرطة أم لا. حضرت معي يومها صديقتان، وصديقة طبيبتي النفسية وشريكي. شعرت بالدعم وبأني إلى حد ما آمنة. بعد الجرعة الثانية، بدأت تقلصات شديدة. هذه المرة غير محتملة. ألم بشع في كل جسمي. بدأت أرتجف. انا مكنتش متخيلة انه مؤلم كده. انا جربت آلام جسدية قوية في حياتي. بس متخيلتش يكون الألم فوق احتمال جسمي.

ترقُب وانتظار وأسئلة من الجميع كلما ذهبت للحمام: «ها في حاجة نزلت؟» الجميع منتظر رد فعل انتظرته قبلهم مئات الساعات وجسمي يخرج عن سيطرتي ويقاومني. صراع أوصلني لنتيجة أن جسمي عائق في طريق نجاتي. مع سؤال صديقاتي وشريكي وترقبهم، أتوتّر أكثر. لم أستطع أن أطلب منهم التوقف. الناس مشحططة نفسها وجايين صاحيين بدري عشاني وبيهتموا بيا. يعني هما بيسألوا من باب الحب والدعم. اتكسفت.

إياب وذهاب من وإلى الحمام. قطرات دم بسيطة تشبه الحيض العادي. دخلت لأتبول وهذه المرة لم أشعر حتى بنزول القطرات. أنزلت ملابسي. جلست. تبولت. وقبل نهوضي شعرت بشيء يجري من داخلي. كبير بقدر جعلني أشعر بنزوله. فتحت رجلي لأرى ولم أصدق. نزل الحمل وخرج من رحمي. رأيته. وكان جسمه بدأ في التكوين. له جسم طفل رضيع لكنه أصغر. له رأس ووجه. يدان ورجلان صغيرة. له ضلوع وجمجمة محفور بها مكان للعينين. رأيته ورأيت حبله السري.. مقلوب ومُعلق في الهواء. لا هو داخلي ولا هو في ماء الحمام. حركت جسمي في كل الاتجاهات لينفصل عنّي وما زال مُعلقًا.

كل الحركات الممكنة بعملها مبيقعش. فضلت دقايق بفكر هينزل ازاي. مش عاوزة حد يدخل عليا. وادركت انه مفيش حل غير اني انتزعه.. جيبت ورق تويلت كتيير وعملت بيه كورة كبيرة. علشان انا مش عايزة المسه بأي شكل. انا مش عارفة أصلا ملمسه. وفعلا ملمستوش بايدي. وبالمنديل كدة مسكته. شديته. شدة جامدة شوية. الحبل دة اتقطع. كان ضعيف. فاتقطع. وطلع في ايدي.

كنت عمالة افكر هيرموه فالزبالة ولا هيشدوا عليه السيفون؟ والا هيحصل ايه؟ وفكرت اخده وادفنه. فضلت واقفة.ملبستش هدومي. لفيته فالمناديل وحطيته في جنب. مبعملش حاجة. ببص له وهو ملفوف كأنه في كفن. انا لسه فاكرة شكله قبل ما ألفه في المناديل.

قطع نظراتي وتسمّري في مكاني نزيف كيس الحمل، وتحولت الأرض إلى حمام دم. أول مرة في حياتي أرى هذه الكمية من الدماء تخرج من جسمي. لم أرد مشاركة هذا المشهد مع أحد. لم أرد لأحد أن يرى ما يخرج من جسمي، وما كان داخله حتى شريكي. لحظة خاصة وحميمية: أول شعور لي بعد نزوله، أول تعبير على وجهي، أول حركة وأول محاولة لفصله عن جسمي. كل ذلك لم يره أحد غيري.

هممت بتنظيف أرضية الحمام. أخذت المسّاحة وكل سيراميكة أمسحها، يجري الدم بطول ساقيّ إليها. طلبت ملابس من صديقتي. فسألتني إن كان الحمل خرج. جاوبت باقتضاب. ارتديت ملابسي ووضعت فوطة صحية تستقبل النزيف. انشغلت دقائق في سكب الماء مكان الدم وجرّه بالمسّاحة. انتهيت من تنظيف الأرضية وبقى جزء على الشبشب. خطوتان إلى بكرة المناديل وسحبة واحدة. نظفته وألقيت آخر نظرة على الجنين وخرجت. لحد دلوقتي انا مش عارفة انا ليه عملت كده. كان ممكن أخرج، وفي الآخر فيه ناس ممكن تعمل ده.. بس حسيت اني عايزة انتهي من العملية دي. لوحدي.

«الحمدلله. حمدلله عالسلامة ياحبيبتي» قالتها صديقتاي وصديقة طبيبتي النفسية وشريكي. خرجت من المستشفى في المساء. ورغم أن الحمل كان عبئًا وصراعًا دام أربعة أشهر بلا هدنة، لم أشعر بالانتصار عليه. ولا أدري إن كان عدم شعوري بالانتصار عليه بسبب أنني مارست دور الأم المُتجذر بداخلي. تلك التي لا تنتصر لنفسها على حساب أطفالها. الأمهات لا ينتصرن على أطفالهن. الأمهات يُنكرن أنفسهن. في النهاية أنا خرجت من العيادة أخف كثيرًا: حركة جسمي على الأرض خفيفة. لم يكُن الحمل ثقيلًا بسبب ضآلة الحجم. ما كان ثقيلًا غير محتملًا هو صراع البقاء الذي خضناه سويًا.

مرت أشهر قليلة بعد الإجهاض، سقط خلالها أمر ضبطي وإحضاري. انتقلت من مسكني لآخر لا يُذكّرني بالسجن. انقطعت عن ممارسة الجنس بسبب لومي لنفسي ولشعوري بالذنب. دخلت في فترة تساؤلات عما إن كان هذا الجنين طفلًا بالفعل أم لا. وقت الحمل كنت بحس اني لمساه وانه حاسس باللمسة. وبفكر انا حاسة بذنب وحاسة بارتباط بيه وبمشاعر بسبب انها خارجة من جوايا، والا بسبب اللي ارتبيت عليه وكان بيترسخ في دماغي انه دوري وان دي حاجة لازم اعملها؟ هل انا احساسي ده نابع من جوايا بشكل مستقل عن أي ضغوط، والا دة احساس جه من لاوعي من حاجات متخزنة: (ابني/ لما ابقي ام/ لما تبقي حامل) والحاجات دي. كنت مرتبكة جدا ومش قادرة احدد انا عايزة ده والا لأ. دلوقتي ادركت ان دي كانت حاجات نتيجة ضغوطات، واني مكنتش عايزة الحمل.

الآن، بعد أكثر من عامين، أدركت أن هذا الحمل أو الجنين أو أيًا كان، لم يكن حي في الأصل، أدركت أن الحياة الوحيدة التي كان عليّ إنقاذها هي حياتي. الآن أستطيع أن أقول أنني انتصرت لنفسي. حسيت بانتصار على المجتمع. انه في الآخر ده جسمي. وانا قررت اجهض. انا عملت حاجة عكس اللي بيقولوا انها المفروض متحصلش. وحسيت بقي انه ك*م القيم بتاعتكم. انا دخلت المستشفى في بطني جنين، وخرجت من غيره.