وثيقة:طالعات فلسطين: حين يصبح سلم الأولويات ذا درجة واحدة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

جيم.jpg
مقالة رأي
العنوان طالعات فلسطين: حين يصبح سلّم الأولويات ذا درجةٍ واحدة
تأليف ميسان حمدان
تحرير غير معيّن
المصدر جيم
اللغة العربية
تاريخ النشر 2019-12-15
مسار الاسترجاع https://jeem.me/سلطة/ميسان-حمدان/طالعات-فلسطين-حين-يصبح-سلّم-الأولويات-ذا-درجةٍ-واحدة?fbclid=IwAR096sBC_qEQiM2JzbTpVeWBZro83TQMhd9Lk-LwWpx3tdWe2l2fY67LgRg
تاريخ الاسترجاع 2020-01-10
نسخة أرشيفية http://archive.is/ZvMWj



قد توجد وثائق أخرى مصدرها جيم



كيف أصبحت الحقوق البسيطة والحريّات العامّة منها والفرديّة مجرّد تفصيلٍ ثانويّ، أو بالأحرى مجرّد درجة مكسورة في أسفل السلّم الذي يحمل قضيّتنا العادلة ؟ وكيف تحوّلت إلى قضايا فيها ما هو مُلِحّ، وفيها ما هو أقلّ إلحاحاً؟ لماذا أوجدنا سلّماً للأولويات، يفرض علينا تجزئة نضالنا من أجل الحريّة والتحرّر؟ وهل يُمكن أصلاً تجزئة منظومة المبادئ التي نُدافع عنها؟ هل يحقّ لنا أن نُطالب بحريّة الحركة والتنقّل، ومن جهةٍ أخرى نُشرّع لاضطهاد النساء وسلب حقّهنّ في العيش؟ هل يحقّ لنا أن نرفض الاحتلال وأن نطالب بتحرير الأسرى، وفي المقابل ننزع من شابٍ مثليٍّ حقّه في الوجود؟

كيف يصبحُ الشعبُ الذي يواجهُ يوميًا جميع أشكال العنف والظلم والقمع والاستبداد، جلّاداً لا يعرفُ الرّحمة؟


أتحدّث بضمير "النّا" لأنني لا أستثني منّا أحداً، وهي فرصةٌ للمساءلة الفرديّة والجماعيّة، هي فرصةٌ لنتوقّف فيها للحظة، كي نراجع أنفسنا، كي نراجع الأنا والنحن التي في داخل كلٍّ منّا، لننظر حولنا قليلاً، ونحاول فهم ما نجنيه. ما تجنيه الأنا الفاعلة والأنا الصامتة. وليس فقط هذا، بل أيضًا لأن المسؤولية تقع على الجميع ولا تستثني منّا أحداً، المسؤوليّة في حماية من تبقّى منّا، وعدم تحويل مجتمعنا إلى مقبرةٍ جماعيّة.

لتجنّب التّنظير، ومن أجل طرح محاولةٍ لفهم التركيبة التي أمامنا، يتوجّب علينا الخوض في مسألتين أساسيّتين وهما الأمان والتربية. لا شكّ أنّنا كشعب لا نُحسّ بالأمان أينما كنّا على أرض فلسطين التاريخيّة. فعلى مدار ثلاثة أجيال، ونحن مُهدَّدون ومهدّدات، وكيف لا والتطهير العرقيّ ما زال مستمرّاً وبأشكال وأساليب مختلفة: إبادةٌ جماعيةٌ يقوم بها الاحتلال في قطاع غزّة، اعتقالات بالجملة وبناءٌ مُكثّف للمستوطنات في الضفّة، وهدمٌ للبيوت ومصادرة للأراضي في الداخل وفي القدس. فُرصنا في كل شيء، في العمل والتعلّم وتطوير مهاراتنا والاستمتاع بالحياة تكاد تكون منعدمة لأنّنا نعيش في واقع مُضطرب حدّ من قدرتنا على الإنتاج والإبداع وجعلنا ندور حول الفراغ وداخله.


عدم الأمان هذا يولّد خوفاً جماعيّاً: الخوف من الاقتلاع. لا نريد أن نُقتلع، نريد أن نبقى. لكن، هل سألنا أنفسنا يومًا، ما هو شكل هذا البقاء؟ هل يجب علينا أن نشعر بالقوّة أو أن نضطهد مجموعةً أخرى أو أفراداً آخرين، ليكون لبقائنا معنى؟ هل نريد أن نتبنّى نموذج "البقاء للأقوى" ونمارسه داخل مجموعتنا التي تتشارك همّ البقاء هذا؟


تقودنا هذه الأسئلة إلى المسألة الثانية وهي التربية؛ فمن الواضح أن التربية داخل عائلاتنا وشوارعنا ومدارسنا تلعبُ دوراً محوريّاً في تقسيم المجتمع إلى فئات تحكمها الطبقية والأدوار الاجتماعية والقوالب النمطيّة، حيث يتربّى الطفل الذّكر على أن يكون "رجلاً" قويّاً لا يبكي وغيريّاً يرفض الاختلاف وأن يكون أيضاً ربّ عائلة حكيم ووليّ أمر أخته وأمّه وزوجته. حتّى أن والديه يحملان اسمه عند مناداتهما بـ"إم فلان" و"أبو فلان"، وإن كان أصغر أخواته. أمّا الطفلة الأنثى، فتتربّى على أن تكون عاطفيّة، عليها أن تطيع والدها وأخاها وزوجها، عليها أن تكون غيريّة، عليها أن تكون خدومةً دون تذمّر، وينتهي بها المطاف إذا أصبحت أمًا إلى "أم فلان"، حيث يتمّ حصرها أساسًا في مؤسسة العائلة لتقوم بدورٍ معيّن، وفي حال خروجها إلى الفضاء العام أو العمل، فتُقمع اقتصاديّاً كعاملة وكامرأة.


هذه التقسيمات، تتيح لبعض الأفراد والجماعات دون غيرهم، الشرعيّة التي تُكسبهم حقّ تقرير مصائرهم ومصائر غيرهم، فيقتل الأخ أخاه إذا كان مثليّاً، ويقتل الأب ابنته إذا ما خالفت التربية المجتمعية هذه. لعلّ السؤال الذي يُمكن طرحه هنا هو لماذا لا نحاسب أنفسنا ولماذا نستمرّ في ترسيخ هذا التوجّه؟

تندرج هذه التربية تحت المنظومة الأبويّة، والتي ليس لها أي علاقة بثقافة مجتمعٍ دون غيره، بل هي عبارة عن بنى اجتماعية، لها إفرازاتها الخاصّة وفقًا للسياقات المختلفة في العالم، والتي تقع ضحيّتها الفئات المستضعفة، وعلى وجه الخصوص، النساء.


وفي السياق الفلسطيني، نتيجةً للمنظومة الأبوية المتمثلة في النظام الاستعماري والنظام الاقتصادي الرأسمالي والتربويّ، وبالإضافة إلى عدم الأمان وانعدام الفرص والمساحات الإنتاجيّة، يولدُ عنفٌ ويمارسُ في أضيق المساحات وأوسعها.

من هنا، ولكي لا يبقى الصمت سيّدًا للموقف، انطلق حراك "طالعات"، والذي يحمل شعار "لا وجود لوطنٍ حُرّ، إلّا بنساءٍ حُرّة"، حيث اجتمعت مجموعة نساء قبل عامٍ، وبعد مقتل يارا أيوب من قرية الجشّ، حيث كان من الواضح لهنّ أنه لا بدّ من التحرّك لكسر مفهوم التعامل مع قضايا العنف عامّةً والعنف ضدّ النساء خاصّةً، على أنّها قضايا تندرج في الحيّز الشّخصي، أو في أحسن الحالات، تقتصر على المؤسسات التي تُعنى بقضايا العنف وكأنّه لا شأن للمجتمع بها. وقد أتى التحرّك الفعليّ بعد مقتل إسراء غريب من بيت ساحور، الأمر الذي فضح تورّط جميع المؤسسات في العنف الموجّه ضدّ النساء بشكلٍ جليٍّ وواضح.

فرض الحراك هذه القضية بقوّة في الشارع السياسي الفلسطيني، رافضًا التعامل معها على أساس أنّها "مسألة شخصيّة" أو حصرها في دوائر المؤسّسات والمنظّمات الحقوقيّة، ورافضاً تصنيفها كمسألة ثانويّة، وفصلها عن النضال ضدّ الاحتلال.

يؤمن حراك "طالعات"، والذي يضمّ نساء فلسطينيّات في جميع أماكن تواجدهنّ، أن السّعي يجب أن يكون نحو مجتمعٍ حُرّ، حيث علينا أن نتعامل مع الموضوع كشعب، وعلى المراكمة أن تكون من خلال الشارع، وليس من خلال المؤسسات أو القانون أو حتى الخطاب الحقوقي، فالمطالبة ليست موجّهة نحو مؤسسة الاحتلال التي لطالما استخدمت النساء لإحكام القبضة الأمنيّة علينا، والتي ليس من شأنها أن تحمينا، كما وأنّها ليست موجّهة نحو السلطة الفلسطينيّة، والتي لا تملك أيّ رغبة سياسيّة لحماية المرأة والفئات المهمّشة والمفقّرة، فالعنف متجذّرٌ في هذه المؤسسات جميعها أصلًا.

وعليه فإنّ حراك "طالعات" هو حراكٌ شعبيّ وسياسيّ، شاملٌ لجميع الفئات وعابرٌ للشرذمة وغير محصور في منطقة معيّنة. "طالعات" ليس فقط من أجل النجاة من القتل، بل لمحاربة كل أشكال العنف الجسدي والسياسي والاقتصادي، ومن أجل وضع هذه القضايا في خانة الأولوية الواحدة والوحيدة، إذ أنّها لبّ المشروع التحرّري، على الرّغم من تهميشها واعتبارها أولويّة مؤجّلة، مثل كلّ القضايا الأخرى والحراكات الأخرى التي يقال أننا سنتعامل معها بعد التحرّر من الاستعمار، وفي هذا اختزالٌ للمفهوم التحرّري الشامل.

يُعتبر حراك "طالعات" بتنظيمه الذاتي حراكاً لامركزيّاً، أي أن العمل المحلّي ممكن أن يتغيّر وفقاً لخاصيّة البلدان المختلفة، لكنّ العمل الموحّد هو الوجهة. هو البوصلة.

في أيلول - سبتمبر الماضي، أطلقت المجموعة الأولى في"طالعات" دعوات لجميع النساء الفلسطينيات لتنظيم مظاهرات أينما كنّ، من خلال حملةٍ إعلاميةٍ ضخمة ضمّت العديد من المقاطع المصوّرة والملصقات، والتي عملت عليها متطوعات نساء، فظهرت قوّة التواصل والتشبيك حيث تشكلت المجموعات في شتّى الأماكن وظهرت الإعلانات عن المظاهرات واجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في اليوم ذاته. وفي يوم المظاهرة، استُخدمت المواد بشكلٍ جماعيّ، فالشعارات والهتافات كانت ذاتها في حيفا ويافا ورام الله والقدس وغزة والناصرة والجش والطيبة وعرابة وبيروت وبرلين، والتي شملت خطاباً سياسيّاً جامعاً لا يستثني أي فئة، ولم يأتِ الخطابُ سياسيّاً للحصول على شرعيّةٍ للنضال، بل إن التوجّه النسويّ سياسيٌّ بامتياز ويحتّم علينا رفع صورة الأسيرة، كما يحتّم علينا رفع صورة امرأةٍ قُتلت داخل بيتها، فالاثنتان ضحيّتان للعنف والقمع.

ليس للحراك قائمة أجندات وخطط واضحة حتى الآن، بل لا يزال في مرحلة التكوين والتنظيم، لكنّه حراكٌ متفاعلٌ تحاول النساء من خلاله تكوين مساحةٍ آمنةٍ للنساء الفلسطينيات ومنظومة وعي جمعية، عن طريق بناء مجموعات فاعلة في أماكن عديدة، بالإضافة إلى تلك التي بدأت بالتّشكل والنشاط خلال وبعد الوقفة الأولى مثل مجموعة القدس وحيفا ورام الله والناصرة ويافا وغيرها. وأيضًا من خلال تلبية الدعوات للمشاركة في ندوات في أماكن مختلفة للحديث عن "طالعات". وقد قام الحراك بتنظيم وقفة من أجل الأسيرات في مدن وقرى كثيرة داخل فلسطين وخارجها، بعد أن قامت قوات الاحتلال بموجة اعتقالات ضخمة، استهدفت فيها أعداداً كبيرة من طالبات وطلاب جامعة بيرزيت، وبعد أن أعلنت الأسيرة هبة اللبدي إضراباً مفتوحاً عن الطعام. كما ونظّمت مجموعة طالعات في رام الله مسيرة في اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية.

قد يكون أمامنا الكثير لننجزه من أجل أن نحظى بالحريّة، ولكن حراك "طالعات" هو نموذجٌ للعمل السياسي والشّعبي الذي يمكنه أن يبني مساحة تحاكي قصص الجميع، ويسعى لبناء سيرورة مجتمعية تراكمية، وفي هذا عملٌ تحرريّ شامل. وفي هذا قربٌ من الحريّة.

لا وجود لوطنٍ حُرّ، إلّا بنساءٍ حُرّة.