وثيقة:نزق المرأة

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Circle-icons-document.svg
مقالة رأي
تأليف يوكه سميت
تحرير غير معيّن
المصدر الجمهورية.نت
اللغة العربية
تاريخ النشر 2017-11-27
مسار الاسترجاع https://www.aljumhuriya.net/ar/content/%D9%86%D8%B2%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A3%D8%A9?platform=hootsuite
تاريخ الاسترجاع 2018-04-20
نسخة أرشيفية https://archive.fo/I0LLz
ترجمة رحاب شاكر
لغة الأصل الهولندية
العنوان الأصلي Het onbehagen bij de vrouw
تاريخ نشر الأصل غير معيّن



قد توجد وثائق أخرى مصدرها الجمهورية.نت



مقدمة المترجمة

تحتفل النسويات الهولنديات هذا الشهر بالذكرى الخمسين لصدور التحفة النسوية «نزق المرأة» (1967) بقلم الكاتبة يوكه سميت (1933-1981)، وتُعدُّ هذه المقالة الطلقة الأولى التي أعلنت بدء الموجة النسوية الثانية التي عمّت هولندا في ستينات وسبعينات القرن العشرين. تفاعلت النساء الهولنديات مع هذه المقالة إلى حد كبير جداً، واستلمت الكاتبة والمجلة كمية ردود هائلة. كلّ هذا جعل الكاتبة تفكر بإنشاء جمعية أسمتها «مجتمع الرجل والمرأة». عملت هذه الجمعية على تغيير كثيرٍ من القوانين الظالمة بحق المرأة، واستمرت يوكه سميت بالدفاع عن قضية المرأة في الكتابة والسياسة، ولم تتوقف حتى وفاتها المبكرة.

نص المقال

لرجال مرتاحون على الآخر، ووضع النساء مزرٍ»، هذه هي زبدة ما يبقى عالقاً في الذهن بعد قراءة الدراسة الممتازة التي خطتها سيمون دي بوفوار بعنوان الجنس الآخر. بيد أنها زبدة تشوّه الواقع: إذ لو كان ثمة جنس ثان فعلاً، فسينضم إليه معظم الرجال أيضاً، إذ أن المسيطرين الفعليين قلائل. كما يمكننا، إن أردنا، أن نعتبر حياة المرأة أسهل من معظم الرجال: عملها الروتيني على رأس شركتها الصغيرة أقل إحباطاً من عمل الرجل تحت إمرة الآخرين.

وقبل أن أطلق عنان نزقي، لا بدَّ أن أؤكد على نسبية بعض الأمور. تعيش النساء حالياً في الفردوس مقارنة مع الماضي، والمرأة الغربية التي تجيب على السؤال المعروف: «في أي عصر تتمنين لو عشت؟» وتختار قرناً غير القرن العشرين، لا بدَّ أنها تتماهى مع الاستثناءات. خطؤها أنها تتعامى عن الأكثرية.

وحرصاً على الشكليات، أؤكد أنني أعي الأولويات جيداً. ثمة مشاكل في العالم أهم من الإزعاجات التي تعاني منها المرأة الهولندية، كالحرب والجوع. ويمكننا ذكر قضايا كثيرة لها الأهمية ذاتها. كل واحد منا لديه عريضة لمشاكله الخاصة، وفي حال كانت غير مكتملة، فهذا لأن أموراً كثيرة تقع خارج إطار رؤيتنا. والحقيقة أن هذه المادة تقع ضمن إطار رؤيتي، وهذا هو مبرري الوحيد للكتابة، عسى أن تساهم عريضتي الشخصية بالتنوير. أقول عريضتي، لأنه من المستحيل التكلم باسم نصف سكان هولندا، وليس بوسعي سوى أن أتمنى أن تقاسمني بعض السيدات نزقي، وأن يزداد عددهن شيئاً فشيئاً مع الوقت.

بغض النظر عن حق الاقتراع الرسمي، النسويات طالبنَ بثلاثة أمور: أن تصبح المرأة إنساناً حراً، أن تحقق إمكانياتها قدر المستطاع، وأن تصبح عضواً كاملاً في المجتمع. لم يتحقق حتى الآن شيءٌ من هذا كله، ولم تقترب النساء مما هو ممكن نظرياً. أتكلم عن النساء كمجموعة، ولكن لا بدَّ من وجود بعض الاستثناءات كما هو الحال دائماً: بطلات رواية كوليت يشكلن مثالاً جميلاً عن النساء المستقلات.

بالنسبة لأكثرية النساء، يمكننا القول إن التحرر بقي في المرحلة السلبية: أن تلوح الإمكانيات في الأفق، وتبقى سابحةً هناك. السيدات ما زلنَ ربّات منازل كما كنَّ منذ خمسين سنة خلت، من دون أدنى طموح. وعندما أصبُّ اهتمامي في ما يلي على فعالية المرأة ضمن المجتمع، فلأن الركائز الواضحة تكمن في هذا الأمر، ولن أتطرق إلى الموضوعين الآخرين، الحرية وتطوير الذات، إلا بشكل جانبي.

تواجه المرأةَ ككائن اجتماعي مشكلتان: واحدة على المدى القريب وواحدة على المدى البعيد. أما على المدى القريب، فهناك مشكلة تساوي الأجور و الحد الأدنى للمكافأة. بالرغم من خمسين عاماً من التحرر، ومن السنوات العشرة التي مرّت على اتفاقية روما، ما زال هناك شركات تدفع للمرأة أقل من الرجل على العمل نفسه أو على عمل مشابه، وما زال تعيين حدٍّ أدنى للمكافأة لا يعني أنه يسري بشكل أوتوماتيكي على النساء أيضاً. وبالرغم من التذمر والحجج الكاذبة التي يقدمها أصحاب العمل، وبفضل نجاح مفاوضي النقابات – ومعظمهم من الرجال – وعنادهم، سيتلاشى هذا الفارق في هولندا خلال المدى المنظور. مبدأ تساوي الأجور مقبول عموماً، ولا أحد يجرؤ حالياً أن يعرّض نفسه لتهمة الرجعية.

الأمور أكثر تعقيداً من جانب آخر. صحيحٌ أن النساء دخلنَ المجتمع، ولكن بغض النظر عن بعض الاستثناءات، فإن تواجدهن غالباً ما يكون في القطاعات الدنيا. لا يسعني الغوص هنا في تفاصيل هذه المسألة أو في مسائل كثيرة أخرى، إلا أني أرى من حقنا أن نعتبر شكّ الرجال ولا مبالاة النساء مسؤولَين عن هذه النقطة.

يملك صاحب العمل الحجة الدامغة كي يطرد النساء من المناصب العليا. لديه موظفة متزوجة أو في طريقها إلى الزواج، وفي مجتمعنا هذا يعني بأنها ستترك عملها عاجلاً أم آجلاً. ولكن هذا لا يفسّر كل شيء بشكل واف، إذ حتى النساء الكبيرات سناً ما زلنَ رازحاتٍ في مراكز متدنية اجتماعياً. لا بدَّ إذن من وجود مقاومة ضد النساء تشبه تلك التي يعاني منها الزنوج، والتي كُتِب عنها في المجلة الأسبوعية (ذي إيكونوميست):

من الصعب جداً التأثير على النمط المهني، إلا من خلال الضغط المستمر وتقديم الأمثولة العامة. حالياً يجد الرجل غير الأبيض نفسه في وضع يشبه إلى حد كبير المرأة البيضاء: هناك استعداد لتسخير مهاراتهم الخاصة في غرف خلفية صغيرة، ونفور كبير من تسليمهم علناً قيادة الرجال البيض.

على فكرة، النساء يغذين هذه المقاومة عندما يظهرن لا مباليات. عندي أمثلة كثيرة، ولكني أقتصر على مقولة تلك السكرتيرة الجذابة: «راتبي جيد، والناس لطفاء معي، ماذا تريد المرأة أكثر من هذا؟». الملفت في هذا الكلام أنها تضع عملها خارج الاعتبار، وتبدو غير مهتمة بكيفية انقضاء أيامها.

رؤساء الموظفين هم أكثر الناس يأساً من النساء كمجموعة، فكم مرة لاحظوا بأن البنات لا يرغبن بتعلم أي شيء إضافي، وبأنهن غير مهتمات بما يقمن به ويستكثرن كل مجهود يوصلهن إلى مناصب أعلى؟

يجب ألا نقلل من شأن نظرة رؤساء الموظفين السلبية تجاه المرأة ككائن اجتماعي. ليس فقط انطلاقاً من النتائج الملموسة، ولكن لأنهم يتكلمون عن تجربة. فعندما يستنتجون أن لا جدوى من الاعتماد على النساء، نرى المجتمع يهزّ رأسه موافقاً: النساء لسن طموحات، مما يقلص المسألة إلى أمرٍ له صلة بالطبيعة الأنثوية.

هل هم محقون؟ لا أدري. ربما ثمة أسباب نفسية بالفعل، أو حتى فيزيولوجية، تمنع المرأة من التقدم في المجتمع، وكم جميل أن يكتشف أحدنا العلاقة بين جسد المرأة وقلة طموحها الذي نلمسه في الحياة العملية. ولكن إلى ذلك الحين ما زالَ ضمن إشكالية الطبيعة والثقافة، وسؤال «هل الطموح خلقيٌ أم مكتسب؟»، ما يكفي لنشتغل عليه من أجل توضيح دور الثقافة. واقع الماضي والحاضر يحمل في جعبته دروساً للرجل تختلف عن دروسه للمرأة.

علاقة المجتمع مع الرجل واضحة، ومع المرأة غير واضحة. والمفتاح إلى تلك الظاهرة يكمن في الشكل الحالي للزواج. فالزواج والأبوة أمور عرضية بالنسبة للرجل، وهي ليست كذلك بالنسبة للمرأة. عندما يتزوج الرجل، فهو يختار شريكة لحياته، أما المرأة تختار علاوة على ذلك أسلوب حياة ربّة المنزل. بمعنى آخر: الرجل الذي يسعى لكسب رزقه يعرف بالضبط ما المطلوب منه: سيقضي أربعين عاماً على الأقل داخل المجتمع، لذا من النافع أن يخطط لمستقبله ويسعى باتجاه هدف معين.

الأمر يختلف بالنسبة للمرأة. هي تعرف أن انشغالاتها المهنية قد تتوقف غداً أو بعد غد، فمن البديهي جداً أن تؤجل التفكير بدل أن تقول لنفسها «هناك هدفي». والنساء اللواتي يبقين عازبات هن أكبر ضحايا هذا الموقف المتردد، فعندما يقررن أن يشتغلن على أنفسهن كمهنيات، يكون الوقت قد فات.

أضف أن ثمة تراتبية اجتماعية أحادية تنطبق على الرجال، ومركزهم نابع من العمل الذي يقومون به. أما بالنسبة للمرأة فهناك تراتبية مزدوجة. أولاً، هناك السلسلة التي تتكون من الثلاثي: العزوبة، الزواج، الأمومة. ليس مهماً اجتماعياً إن كان الرجل متزوجاً أم لا. ولدى العازب المسنّ ميزات، لأن الناس يعتقدون من دون دليل بأن حياته مثيرة. ومن دون دليل أيضاً يظنون بأن المرأة غير المتزوجة فقدت غايتها. إذ يمنح الزواج المرأة قيمة، بالرغم من أننا في هولندا لا نعتبرها وصلت المنتهى فعلاً (المرحلة الثالثة)، إن لم يتسن لها جرّ عربة أطفال.

الأهم هنا هو أن المرأة غير مضطرة للفعل الاجتماعي من أجل بلوغ هذه المكانة المباركة. أن تجدي عملكِ المنشود، هذا أمر يعود للمجهود الذي تبذلينه. أما لقاؤك مع الرجل المناسب، فهذا يعتمد على الظروف. وهكذا تدخل الصدفة حياة المرأة، ونصل إلى الوجه الثاني للتراتبية: ما عدا الزوج وأسلوب الحياة، تختار المرأة في معظم الحالات مستوىً اجتماعياً. أيّ نوع من الحياة ستحيا، أين ستسكن، كم ستملك من المال، في أي طبقة اجتماعية ستتواجد؟ بالنسبة لغالبية النساء، ترتبط هذه الأمور بالرجل الذي تزوجته صدفة. مكانة المرأة الاجتماعية مشروطة بالرجل بطريقة مضاعفة: بالدرجة الأولى لكونها متزوجة أو غير متزوجة، وبالدرجة الثانية لأن مكانتها تابعة بشكل مباشر لمكانته. إذا دققنا بهذه المعطيات الأساسية، لن نستغرب بأن النساء في ثقافتنا الحالية لسنَ طموحات. الأجدر بالاستغراب هو أن نجد من يستغرب هذا.

كل شيء مبرمج عند النساء بهدف ترك انطباع أن مبادرتهن لا تؤثر على حياتهن. الزواج هو أول تعارف جماعي مع الصدفة، واللقاء الثاني هو عندما يصبحن أمهات. حتى وقت قصير مضى، لم تكن المرأة قادرة على تحديد عدد نسلها، وحتى الآن نرى أن المعنيين لا يستوعبون أن الأمر بات ممكناً. هذا مثال جميل عن تخلف الإنسان مقارنة بالتقنية. داخل المجتمع من الممكن لأي شخص أن يحدد مدى صعوبة العمل الذي يقوم به، أما المرأة فليست قادرة على التحكم بكيف سيكون أطفالها، هل مزاجهم صعب أم سهل، هل صحتهم جيدة، وهل تتطلب دراستهم جهداً كبيراً منها أم لا.

من السهل إذن أن تصبح المرأة قدرية، أو شخصاً لا يفكر كيف سيعارك الحياة، وتنتظر ماذا سيحصل قبل أن تحدد موقفها. وللسبب نفسه أيضاً لا تتصالح مع المجتمع، ومع أنماط العمل المتعارف عليها. تجربتها في الحياة علمتها ألا تؤمن بأن «التحكم هو التطلع إلى الأمام». (طبعاً هذه المعطيات ليست ثابتة. عندما تكون المرأة ضمن الأسرة هي الاستثناء، والمرأة في المجتمع هي القاعدة، سنراها تعايش أشياء جديدة وتمنحها التجربة إشارات مختلفة).

المرأة حالياً غريبة عن المجتمع، وتشتد غربتها في مرحلة ما من عمرها: عندما يكون أطفالها صغاراً. غربتها مادية بالدرجة الأولى، لأن المحيط الذي لا تتواجد فيه يفقد واقعيته مع الزمن. وغربتها فكرية بالدرجة الثانية: جلّ طاقتها يستنفذها ما يدور بين حيطان منزلها، مما يؤدي إلى ضيق إطار رؤيتها. وها هي تفقد عادة التركيز، لأن عليها الانتباه على خمسة أشياء بنصف عين. (أعرف مهمة واحدة تتطلب من الأم كامل تركيزها: الولادة). وبما أن أصغر خططها معرّضٌ دائماً للتأجيل، تُسلّم نفسها لأحداث اللحظة فقط. وغربتها نفسية في آخر المطاف، إذ يُطلب منها تنفيذ مهمة تتنافى مع كل ردود فعلها المكتسبة.

ربما من المفيد التوقف عند هذه النقطة مطولاً، لأن هذا الجانب من المسألة معرّضٌ للإهمال، إما لأن الذين يكتبون عنه لم يختبروا الوضع من الناحية العملية، وإما لأن ذكرياتهم انمحت: الإنسان عنده قدرة عجيبة على النسيان.

حالما يكبر الطفل ويتجاوز مرحلة وضعه في القفص، تدخل المرأة في كارثة طبيعية تستمر، دون أن تدري، أربع سنوات متواصلة، ويتغير نظام الحقوق والواجبات الذي تعودت عليه فجأة. تربَّت على الفصل بين العمل والاسترخاء، لتجد نفسها الآن في وضعٍ لا العمل فيه عمل، ولا الراحة راحة. ويفقد المثل القائل «بعد الجهد تأتي الراحة الحلوة» معناه بالنسبة لها. الأشياء التي كانت تعتبرها طبيعية، تتحول فجأة إلى كماليات غير معقولة: شرب فنجان قهوة من دون أن تهبّ عشر مرات واقفة، أو الحديث مع شخص ما، أو قراءة مقالة في جريدة.

كما تختل ردود فعلها أثناء العمل. تقسّم كل مهامها إلى شُقَف، فتفقد الإحساس بالرضا الذي يأتي عادة بعد العمل الناجع. تُحبَط نتائج عملها مباشرة، فينتابها شعور أن لا جدوى لمجهودها. (إن كانت ثمة فئة واحدة تعرف ما هو «باطل الأباطيل»، فلابد أنهن أمهات الأطفال الصغار). تعلمت في صغرها أن تنجز كمية معينة من العمل خلال زمن محدد، أما الآن فمهمتها تقلصت إلى التنبه المستمر والتدخل عند الحاجة. باختصار، في المساء تجد نفسها مرهقة بشدة من دون أن تكون قد انجزت شيئاً ملموساً.

يسحرني أن أرى الأطفال يكبرون أمام عيني وأمدَّ لهم يد العون. المشكلة هي أن هذه المهمة تستغرق اثنتي عشرة ساعة في اليوم، وسبعة أيام في الأسبوع. (لذلك أعتقدُ، بخلاف كثيرين، أن التدريس من حيث المبدأ ليس مهنة مثالية للأمهات: وضع المنزل والعمل يتشابهان إلى حد كبير. المعلم، مثل الأم، يقدم أقصى ما عنده من الناحية النفسية، ويعمل تحت مستواه فكرياً).

الملفت أن يعتقد الناس بأن رد فعل المرأة على هذه الأمور يختلف جوهرياً عن الرجل. يبتسمون متفهمين عندما يرون الأب ينطلق إلى عمله متنهداً الصعداء بعد انتهاء العطلة الأسبوعية، أما بالنسبة للأمهات فالرأي العام هو أن من واجبهن البقاء في المنزل طالما عندهن أطفال صغار. ولكن هذا غير منطقي من وجهة نظر المرأة، فالإحباطات تصل أوجها حين يقضي الأطفال كامل يومهم في المنزل. وتزداد الطينة بلة بسبب الظروف الخارجية. يومَ كانت الشوارع في هولندا هادئة وبيوت الأسر منتشرة في كل مكان، كان من المعقول ترك الأطفال يلعبون في الخارج بحريّة، غير أن هذا بات مستحيلاً في عصرنا الحالي، عصر السيارات وبنايات الطوابق. بمعنى آخر: وظيفة الأم الحراسية صارت أصعب.

الاستنتاج: حالياً ليس لدى أم الأطفال الصغار من الناحية العملية أي مجال للإحساس بأنها إنسانة طبيعية، بالغة بين البالغين. ولكلّ هذا نتائجه طبعاً. على المدى القريب: من لا يتمكن من استرداد سكينته إلا نادراً، يشعر بالبؤس لا محالة. وعلى المدى البعيد يبدو لي أن هذه المرحلة ستترك آثارها العميقة في سلوك النساء لاحقاً.

في دراسة حديثة، يستنتج الطبيب تريمبوس متأففاً أن ربات المنازل الهولنديات سعيدات بأنفسهن. واستطلاع رأي آخر جرى بين ربات المنازل يؤكد على هذا الاستنتاج. أقوال من قبيل «أحب النظام في البيت» و«تنظيف المنزل وترتيبه»، معبرة للغاية عن هذه الحالات التي شخّصها الطبيب تريمبوس ضمنياً على أنها «قطيع التنظيف».

ردُّ فعلي كان في بادئ الأمر مشابهاً لذلك الطبيب، لكن ما عدا كوني مثقفة، أنا شريكة هؤلاء النساء في المصير. بعد تفكير بدأت أفهم أجوبتهن بشكل أفضل: ما تفعله ربّة المنزل ليس ضرورياً لراحة محيطها فقط، بل لراحة بالها هي أيضاً. كل شيء كامل ونظيف ومرتب ولذيذ! من دون هذا الحد الأدنى تغدو الحياة صعبة. الفرق بين ربّة المنزل والآخرين، هو أن ما قد يبدو للآخرين نقطة انطلاق بدهية، هو بالنسبة لها هدف ضبابي واستمرار لحملة تعتمد فيها على الحِيَل والتشاور المتعب. لذلك ليس غريباً أبداً أن تسبب عطالة الزوج توترات إضافية، فتتذمر المرأة: «الزلمة في البيت طول اليوم!». ردُّ فعلها يجعل العارفين يتكلمون عن « برودها الجنسي»، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. «الزلمة» هنا مرادف لصانع الفوضى. رغم أن ربّة المنزل متعودة على لملمة الكراكيب، إلا أن العاطل عن العمل «يكركب» البيت في غير الأوقات المحددة. هو خطر يهددها ويجعل انتصارها في معركتها اليومية صعباً.

المحزن هو أن هذه المشكلة لا يحلّها اقتناء المزيد من آلات المنزل الكهربائية. لذلك أستغرب كل مرة عندما تهلّ الأخبار السارة عن أجهزة المستقبل. أية سعادة يخفيها الطبخ الالكتروني أو التبضع عبر الكمبيوتر؟ كل ما هنالك أنهم يبعدون المهمة بدلاً من أن يخففوها. لن تتحرر ربات المنزل قبل أن تنزل الأجهزة المضادة للكركبة في الأسواق.

ما أريد قوله هو أنه لا خيار لربّة المنزل المرتبطة حياتها بالأطفال الصغار، إلا أن ترضى بالنتائج المتواضعة كي تحافظ على ذاتها. هي تعيش حالة نكوص، ومستوى طموحها منخفض بالضرورة.

اللافت هو أن قليلات اللواتي يخرجن من حالة النكوص تلك. بما أنهن كنّ منشغلات طوال الوقت بأسرهن، صار العالم الخارجي بعيداً عن إطار رؤيتهن. وبما أنهن كن لا يسترحن ولا حتى ثانية واحدة، اقتنعن أن ربّة المنزل ليس عندها الوقت لأي شيء آخر. وقلة الوقت المفترضة ترتكز على معطيات المرحلة السابقة: عندما تكون الفعالية مستحيلة بالنسبة لأم أطفال صغار، لن يخطر على بالها بعد أن يكبر الأطفال أن تتشاور حول أداء واجبات المنزل، فتستمر بالعمل ستين ساعة أسبوعياً وهي راضية. وثمة من يشجع المرأة على ذلك، أعني مدارس التدبير المنزلي الهولندية التي تركز على التنفيذ المثالي بدلاً من التوزيع العقلاني.

باختصار، بمجرد أن يأتي الأطفال الصغار يُقفل الباب على معظم النساء. وطالما الوضع على ما هو عليه، سيبقى التفريط بقدرات الإنسان كبيراً ولن يختفي نزقي الشخصي. ولن أقتنع بأن تنويعة هائلة من الأفراد قادرة على ملء حياتها بالمهمة الموحدة ذاتها.

ومن يكتب عن نزق المرأة، لا يمكنه تلافي فصل «الزواج». يبدو أن الزواج من المؤسسات التي لا يمكن استبدالها بأخرى تنافسها وظيفياً. نحن غير راضيين عنها، ولا نقدر من دونها. مشكلة الزواج موجودة من زمان، ولكن هناك سببين حالياً لاعتبار الزواج في وضع حرج. السبب الأول له علاقة بالتوعية الجنسية، والثاني بأزمة السكن.

يتذمر الناس أحياناً من كون الجنس يحتل مكانة مركزية في كتب الأدب. يقولون إننا تخلصنا من المحرمات، فدعونا لو سمحتم نتكلم عن شيء آخر؟ يبدو لي أن هذا تصور ساذج للأمور. ففي استطلاع رأي قامت به مجلة (ليبل) حول الزواج الهولندي، اتضح أنه في أربع وسبعين بالمائة من الزيجات الهولندية، يحتاج كِلا الزوجين أو أحدهما إلى توعية بخصوص هذا الموضوع – والأدب هو شكل من أشكال التوعية.

بمعنىً آخر: لم تعد الرغبات الجنسية محرمة، ولكنها ما زالت إشكالية في جميع الأحوال. ومن الممكن وصف الإشكالية كما يلي: هي، أولاً، الخوف من ألا تواكب المعايير المفترضة من قبل المحيط، وثانياً، الخوف من ألا تحصل على شيء يقول الجميع عنه إنه ضروري.

في دراسة ممتعة حول «الأسرة العادية» تكتب (إليزابيت بوت) أن الأزواج الذين تكلمَت معهم يعتبرون الحياة الجنسية السعيدة نوعاً من أنواع الواجب الأخلاقي. هي تؤكدُ أن نتائج دراستها لا تصلح إلا في الأسر اللندنية، ولكني أحسستُ أثناء مراجعتي لمادتها أن لندن وهولندا ليستا بعيدتين عن بعضهما بعضاً، لا مِن هذا الجانب ولا من الجوانب الأخرى. وفي حال كان هذا صحيحاً، فالإنسان يكلّف نفسه مهمة شاقة جداً. هو لا يعتبر التناغم المديد الهش بين شخصين هبة من عند الله، وإنما شرطاً يقيس من خلاله نجاحه. ويضع نصب عينيه هدفاً صعب المنال كما الفضيلة أيام زمان.

النقطة الثانية لها علاقة بشكل غير مباشر بأزمة السكن. أقول «غير مباشر» لأني لن آخذ الضحايا المباشرين بعين الاعتبار. نمط السكن تغيّر منذ 1940 بطريقة لم يعد أحد منا قادراً على اختيار سكنه بنفسه. معظم الناس يحصلون مع مرور الوقت على منزل، ولكن غالبيتهم لا تملك الخيار. من غير الممكن عملياً أن يبني المرء عشّه قريباً من الأهل والأصدقاء. قد يرفع هذا درجة الخصوصية، ولكنه يجعل من تبادل المساعدة والدردشة مع شخص مريح أموراً صعبة المنال. على الأُسَر أن تعتمد على نفسها إذن، فتزداد أهمية التواصل والتعاون بين الزوجين مقارنة مع الماضي.

ربما هناك من يقول إن الرجال يعانون من هذه المشكلة مثلهم مثل النساء. ومع ذلك أقولُ إن ثمة فرقاً: في الصباح يُغلق الرجل الباب وراءه، ليصبّ اهتمامه على أشياء أخرى. أما المرأة فطبيعة مهامها تجعلها تفكر طيلة النهار باختفاء القلب الحنون الذي تفضفض له. أضف إلى أن معظم النساء اللواتي يعتبرن زواجهن فاشلاً، غير قادرات على الإتيان بالبديل: في حال تطلقن، ستنهار حياتهن المادية ويضطررن إلى العمل ضمن شروط أسوأ من تلك التي تعاني منها المرأة المتزوجة أو غير المتزوجة. يقعن في الفخ، وإن لم يكن الفخ نفسياً، فهو ماديٌ واجتماعي. (ضمن كم أسرة يوجد توازن بين الرجل والمرأة من ناحية مساهمتهما في عدد الأصدقاء والمعارف والعلاقات؟)

قد يقول بعضهم إني أتكلم عن أسوأ الحالات. هذا ليس صحيحاً في حال صدّقنا استطلاع الرأي المذكور أعلاه. لأننا من خلاله نعرف أن عشرة بالمئة من الزيجات الهولندية في خطر راهن، وأن عدداً كبيراً منها قد يصل حد الخطر في أيّ لحظة. ومع ذلك هناك عامل آخر يلعب دوراً في هذا المجال. وضع المرأة الحالي يضغط بشدة على الزواج. فهي لم تتخل فقط عن حريتها، وإنما عن أسلوب حياتها من أجل دخول عالم الزواج السحري، نهاية كتب البنات. زوجها المسكين مضطرٌ الآن أن يعوّض لها كل شيء تخلَّت عنه. هو حياتها، فلها الحق إذن أن تحصل على الاهتمام والحب والهدايا. وإن أراد بعد يوم مزدحم أن يجلس لوحده، تشعر بالإهانة لأنها لم تتكلم طوال النهار مع شخص بالغ. وإذا طالب أثناء العطلة الأسبوعية بالراحة، يخيب أملها لأنها انتظرت طوال الأسبوع أن يقضيا وقتاً سوية.

الملخص: جزءٌ كبيرٌ من مشاكل الزواج له علاقة بالاختلاف الكبير بين حياة المرأة والرجل. وإن أردنا التخلص من هذه المشاكل، علينا أن نجعل حياتهما أكثر تشابهاً. التنظيم المادي للأسرة سيزداد صعوبة، ويتطلب الأمر أداء عادلاً من قبل الطرفين، بيد أن المكاسب النفسية أكثر من بدهية.

المرأة التي تستثمر في مهنتها، لا تملك الوقت كي تفكر طيلة اليوم بمشاكل الأسرة. ولن تحتاج الكثير من زوجها، لأن لها حياتها الخاصة. ولن تتقبل حاجته إلى الهدوء والوحدة فقط، بل ستتفهمها وتتقاسمها معه. عمله لن يهدد كمية الاهتمام الذي يمنحه إياها، وستفهم أن ثمة هموماً يجلبها معه إلى البيت. باختصار، ستكون قادرة على وضع نفسها مكانه ولن تكون مصالحها عكس مصالحه.

وهكذا نكون حللنا جزءً من المشكلة. أما بقية المشاكل فضغطها على الأسرة أقل وطأة، ومن الممكن من حيث المبدأ التعاون لحلها من دون سوء الفهم الجذري الذي يميز المشاكل الزوجية.

ولكن النساء المتزوجات في هولندا لا يرغبن بالعمل أساساً. النساء العاملات قلة، وفي استطلاعات الرأي معظم الردود على اقتراحات العمل سلبية. ولكن لماذا؟

طبعاً، ثمة رجال تتعلق فحولتهم بعدم مقدرة زوجاتهم على كسب المال. وفي حال شعرت النساء بالإثارة جراء ذلك، لا مشكلة، فالمازوشية تسلية إنسانية متعارف عليها.

ولكن هناك حججاً أكثر صلابة. نساء كثيرات لم يتعلمن شيئاً. بعض البنات يحاولن تعويض تخلفهن، ولكن تواجدهن في قمة الهرم التعليمي ما زال نادراً. ليس فقط مقارنة مع الطلاب الذكور، وإنما مع نسب النساء في الدول الأخرى.

على كل حال: بالنسبة للنساء الكبيرات سناً اللواتي تركن ساحة العمل بعد الزواج مباشرة، يصعب عليهن إيجاد عمل، إما لأنهن لم يتعلمن الكثير أو نسين كل شيء تعلمنه، أو لأنهن كبرن بالعمر إلى درجة صار من الصعب إيجاد عملٍ «قدر القيمة». البديل الوحيد هو أن يقفن خلف شريط الإنتاج الأوتوماتيكي، أو أن ينظفن بيوت الغير، وفي الحالتين الأمر غير مغرٍ.

السبب الثاني هو قصور في مخيلة البشر. الإنسان المحافظ غير قادر على تخيل الأشياء تتغير. بدلاً من أن يرى مجسّمة جميلة أمامه، يتصور صحراء مقفرة. معظم ربات المنازل لا يعرفن شريكات في المصير عاملات، فيظنون أن الأمر مستحيل، كيف لا وهن منشغلات ستين ساعة في الأسبوع؟

على المجددين أن يفكروا في كيفية إضفاء مظهرٍ ملموسٍ على خططهم، وبشرح أن الوضع الحالي ليس جامداً. بهذه الطريقة يمكن تزويد النساء بأمثلة حيّة تشجعهن على إعادة النظر في تنظيم إدارة المنزل. على سبيل المثال، صدر في انكلترا كتابٌ فيه نصائح للمرأة العاملة. بالنسبة للصحافة الهولندية المهتمة بالنساء، ما زال هذا المجال مفتوحاً للاستكشاف.

الرأي العام يقول إن قضية العمل تصلح فقط للنساء ذوات الميول الفكرية. غالبية الدراسات حول هذه المسألة تركز على هذه المجموعة من النساء وتستقي أمثلتها منها. من الطبيعي أن يكون موقف هذه الفئة هو الأكثر تبلوراً، فهن يدركن كم تفوق قدراتهن ما يفعلن حالياً. هؤلاء النساء رائدات النزق.

ومع ذلك، يمكننا من خلال الأرقام التي وردت في استطلاع رأي (ليبل) أن نستنتج أن ثمة تغييراً حاصلاً: أربع وثلاثون بالمئة من المتزوجات عبّرن عن رغبتهن بالعمل، وهذه النسبة هي عشرة أضعاف عدد النساء الحاملات للشهادات الثانوية أو الجامعية. هذا هو دليلي على أن ثلث الأمهات الهولنديات بدأن يستوعبن الواقع. والواقع يقول إنه مع امتداد عمر المرأة وتحديد نسلها، لم يعد ممكناً ملء حياة أي إنسان بالأمومة فقط.

ولكن وضع هؤلاء الأربع والثلاثين بالمئة صعب، فهن محاطات باثني وثمانين بالمئة من الرجال ممن يجاهرون بأن مكان النساء هو البيت. وإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على أن المقاومة ضد عمل المرأة ليست من نوع الأحكام المسبقة التي يعتني المرء بها من دون أن يجرؤ على الدفاع عنها. ما زالت وجهات النظر الرجعية بهذا الخصوص منتشرة جداً. كما يدلّ على أن الرجل يملك موهبة خارقة في حصر تعليمه بالمستوى الفكري فقط. لدى بعض الطلاب أفكار عن العذرية لا تختلف جوهرياً عن المتعارف عليه في صقلية. يبدو أنهم نفسياً ما زالوا عاجزين عن مواجهة مبدأ المساواة. نلمس هذا من خلال المستوى الاجتماعي العالي الذي تتمتع به بعض صحف الرجال. من الناحية الاجتماعية والثقافية والعلمية نحن أمام صحف ناضجة، أما من ناحية الموقف تجاه الجنسين فلا نجد سوى السادية المفضوحة.

لحسن الحظ لدينا رجال متنورون في هولندا، خمسة عشر بالمئة بالضبط. يبدو لي أن النساء بأمس الحاجة إلى مساعدتهم من أجل حَني الرأي العام. هؤلاء الرجال قادرون على لعب دور إيجابي مثلما فعل أجدادهم في بدايات النسوية.

على المرأة التي تريد دخول المجتمع أو العودة إليه أن تكسر الخط القدري وتباشر بالتخطيط، فالمجتمع لا يحبذ الناس الذين يبدؤون من الصفر بعد سن الأربعين، حتى ولو كانوا بكامل اللياقة. لذلك تحتاج المرأة إلى صياغة خطة أُسرية، وأن تقرر كم طفلاً ستنجب ومتى.

ولقد أصبح عند المرأة حليفٌ قوي: حبة منع الحمل. إن كان هناك شخص يحق له أن يُضاف إلى بانثيون النسوية، فلا بدَّ أنه بروفيسور بينكوس. ولكن، للأسف، حبة منع الحمل لا تشكل حتى الأن سوى نصف الحكاية. في عام 1966 تم استخدامها من قبل ثلاثمائة ألف امرأة هولندية. بالمقابل عندنا مليون وثمانمائة ألف امرأة متزوجة في سن الخصوبة. طبعاً هناك نساء لا يحتجن هذه الحبوب، ولكننا عملياً ومن خلال هذه الأرقام نعرف أن أمامنا شغلٌ كثير.

أو بالأحرى: إن حصل واحتجنا يوماً إلى نسوية هوجاء، فسيكون من أجل هذه المسألة. إذ لا توجد عندنا طبقية أمنية، أو عنصرية منظمة ضد مجموعة بشرية، ولم تعامل المرأة ككائن أخرس، كما هو الحال في مجال قانون الإجهاض.

في الماضي كانت المرأة ضحية لعنتها البيولوجية: كم امرأة قضت في عمر التاسعة والأربعين في سبيل بَرَكة الإنجاب؟ نحن الآن نتعامل بحذر أكبر مع صحة الأم من الناحية الفيزيولوجية. أما من الناحية النفسية والاجتماعية، فليس عند المرأة أدنى الضمانات. حتى في أكثر الحالات تراجيدية، لا يتم الإجهاض إلا بعد صدفة الوساطات. هناك طبعاً دول أخرى لديها قوانين أكثر ليبرالية في هذا المجال، وبالأخص بعض الديموقراطيات الشعبية (توجد لائحة بهذه القوانين في مقالة م. راسز في مجلة الصوت الجديد لشهر تموز 1967). ولكن حتى في تلك الدول، تخضع المبادئ لسياسة الشعوب. أستخدمُ كلمة «مبدأ» عن عمد، لأني أحسُّ بالتناقض في الأفكار الغربية حول كرامة الإنسان. يُقال – بموافقتي الكاملة – إن الفرد يملك حق التعبير طالما هو لا يتجاوز حرية الآخرين. ويُمنع الفرد ذاته من استخدام حريته كاملة من أجل تحديد عدد أطفاله وتاريخ ميلادهم. لا أزعم طبعاً أن على كل امرأة أن تمارس الإجهاض، بل على العكس: يجب أن تصبح هذه العملية آخر الإمكانيات الآيلة للانقراض، وأن نتبنى عقلية منع الحمل كما لو كنا نحفظ جدول الضرب عن ظهر قلب. كما أرى أن المرأة هي الوحيدة التي تملك حق قرار فيما إذا كانت ستجهض حملها أم لا، طالما هي من سيحمل الطفل ويلده ويرضعه ويعتني به ولها الدور الأكبر في تربيته. باختصار، طالما هي من سيستثمر الجزء الأكبر من حياتها في هذه المهام، لا يملك الآخرون حق أن يجعلوها سجينة أخلاقياتهم وفلسفة حياتهم وأحكامهم المسبقة.

من المحزن أن يكون هذا الوضع استثناءً، بدل أن يكون القاعدة. اثنان بالمئة من الأطباء الهولنديين مستعدون أن يجيبوا بنعم على السؤال التالي: «يا دكتور، هلّا ساعدتني بالتخلص من حملي؟» من دون أن يطلبوا شرحاً وافياً. وحسب الاستطلاع نفسه، يرى واحدٌ وسبعون بالمئة من الأطباء أن حالة الطوارئ الاجتماعية لا تبرر إسقاط الحمل. طبيعي ألا يكون الأطباء تقدميين بالضرورة، نظراً لموقفهم السابق من وسائل منع الحمل. وأقصد بالتقدمي ذلك الشخص الذي يحمل أفكاراً ستصبح مع مرور الوقت عادية أو لا مفرَّ منها. وعندنا القانون أيضاً، قد يُقال إن القانون قابل للتغيير. طبعاً! ولكني لا أجد توسيع شروط الإجهاض حلّاً، حتى ولو كان فعلاً خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تقليص المأساة الإنسانية.

وضّحَ الطبيب فرانس ونغ لوهينغ مدى ثورية حبة منع الحمل: أخيراً تم فصل الشهوة عن التكاثر. وأضيفُ من عندي بأن الحبة زائد ضمان الإجهاض يشكلان معاً انقلاباً أكثر جذرية: أخيراً تم فصل المرأة عن الأرانب.

عندما يكون حق المرأة بالتصرف بجسدها موثقاً بشكل قانوني في ميثاق موقع من قبل كل الشعوب، ستتمكن حريتنا التي غزت الطبيعة – الإجهاض ممكن من الناحية الطبية – أن تغزو الثقافة أيضاً. وعندها أيضاً ستعوّض المرأة بعضاً مما فاتها مقارنة مع ممثل الجنس البشري الآخر. وعندها سيُغمد سيف ديموقليس في المكان المناسب، في بلد الأساطير.

وأقول لمن يجد صراخي يصمّ الآذان: هذا ما لا بدَّ منه! فكم مرة لاحظتُ أن الرجال، حتى المتنورين منهم، عندما يناقشون أشياء تخص النساء، لا يكون عندهم أدنى حدس بحقيقة وجودهن؟ أخشى أن يكون الملف الذي أفتحه هنا أكبر من ملف الأخطاء الفرنسية في الصحف الهولندية.

وهناك عامل آخر يؤثر حالياً بشكل سلبي على وضع المرأة، وبالأخص حريتها. هذا العامل هو برأيي سوء استخدام ما قدمه علم عمق النفس.

حسب علمي لم يصل هولندا ذلك الصدى القادم من أمريكا والقائل بأن السعادة الجنسية تصيب النساء الصغيرات والسلبيات فقط. لكن الأمر يختلف بالنسبة لقضيتين تمت استعارتهما من فرويد، ويتوجب هنا حضور مسألة الإجهاض مجدداً. في الماضي كانت الاعتراضات على الإجهاض ذات طابع عقابي: بعد الشهوة تأتي الكبوة! وتقتصر الكبوة على المرأة طبعاً، بالرغم من أن حصتها من الشهوة مشكوك بها. وفي أيامنا هذه يُعتبر الحمل غير المرغوب منزلقاً فرويدياً لا يُفهم إلا بطريقة واحدة: المرأة تريد طفلاً والإجهاض يعني أنها ليست على ما يرام. ويحصل طبعاً أن تكتئب المرأة بعد العملية، وخاصة عندما يكون هدف الحمل أن تجرجر الرجل إلى مركب الزوجية. ومن غير الوارد في مجتمعنا أن يمضي الحمل غير المرغوب من دون أن يلحظه أحد، وهذا بسبب المأساة التي تحيط به: الوحدة، ردود فعل الشريك غير الملائمة، تحطم العلاقة، الإهانات المرتبطة بعملية الإجهاض وعوامل تخريبية أخرى.

برأيي من غير المقبول التغاضي عن دوافع الفرد الواعية لصالح اللاوعي الموجود أو غير الموجود، وأقول «غير مقبول» بسبب عدم اتباع قواعد التواصل الطبيعية أثناء التعامل مع المرأة المتذبذبة والضعيفة.

يحصل كثيراً أن يشعر أحدنا بالمرارة بعد اتخاذ قرار ما. وإن حصل وتنبأ شخص آخر بأن ذلك سيحصل، يمكنه أن يقدم النصح من دون سحب القرار من يد أحد بحجة الخيبة المفترضة، إلا إذا كان طفلاً أو غير مكتمل. بمعنى آخر: ما يضايقني في هذه السياسة هو شكلها الأبوي المبطن، وقناعها الحداثي الذي يؤكد على عدم أهلية المرأة.

يوجد مجال آخر ظهرت فيه آثار أفكار فرويد على حرية المرأة. منذ اكتشافه مدى تأثير الطفولة على مسار حياة الإنسان، صار الناس يموتون من خوف أن تقصّر الأمهات في مهامهن. الصغير والكبير يفعل ما بوسعه كي يغرس في رأس المرأة أن لا غنى عنها بالنسبة للأطفال. من زمان كان من الممكن ترك الأطفال عند أشخاص مختصين أو غير مختصين، حالياً هذا أمر غير مطروح عملياً، إلا إذا كانت النساء في خدمة الأعلى، كأن تكون ممثلة أو نجمة من النجمات. النتيجة هي تقييد النساء، أكثر من أي وقت مضى، بالطفل.

ليس من نافل القول أن أؤكد أني من حيث المبدأ موافقة على التعامل بجدية مع المهام التربوية. اعتراضي هو على استخدام كلام فرويد من أجل إدامة حكم مسبق قديم: مكان المرأة هو المنزل.

حسب علمي، للأب دور مهم أيضاً في فكر فرويد. ولكن بشكل من الأشكال لم ينعكس هذا على الوضع العملي، لا يتم تذكير الرجال بمهامهم التربوية بشكل منهجي كما يحصل مع النساء.

يسهل الكلام العقلاني عن العلاقة بين الأم والطفل مع أشخاص ليس عندهم أطفال، ومع ذلك أقسمهم إلى فئتين: الفئة الأولى أرهبتها إنذارات التربويين المختصين، فراحت تدافع عن نفسها بكلام عن الأسرة المحطمة والطفولة المغدورة. والفئة الثانية ما زالت عالقة في المرحلة التجريدية، وتظن أن كل شيء ممكن حلّه من خلال الخطابات الرسمية وجداول العمل والتدابير الملموسة التي نحن بأمس الحاجة إليها فعلاً.

ليس هنا صلب المشكلة، وإنما عند الأمهات الحليفات والمخلصات لمختصي علم نفس الطفل. فعندما تقرأ المرأة ما قد يصيب أميرها اليافع أو أميرتها الشجاعة، يغصّ قلبها وتتخذ قراراً مغواراً: ستدافع حتى آخر رمق.

ليس غريباً أن تتهافت الأمهات على كتب ومقالات علم نفس الطفل، بل الغريب هو إيمانهن المطلق بها. تجنب بعض الأحكام المسبقة في المجتمع ليس صعباً للذين يتمتعون بدرجة من الخصوصية لأنفسهن، ولكن يبدو أن آراء العلم بالنسبة لنا أكثر قدسية من البابا أيام كان معصوماً عن الخطأ.

الفزع الجماعي الذي تلا فرويد يجعل التفكير الهادئ بموضوع «المرأة والطفل» عملياً شبه مستحيل. ربما كانت الأمومة مقدسة في الماضي، ولكنها اليوم من التابوهات، ما يعني أن لا أحد يتجرأ أن يستخدم أمام نفسه أو الآخرين سوى تلك الصيغ المقبولة، فتصبح الجدالات حول هذا الموضوع غير حقيقية وملفحة بالضباب والنفاق.

لذلك نرى بعض النساء العاملات يحاولن، كردة فعل غير واعية أو كسياسة واعية، أن يزايدن على الأخريات بإنفاق وقت مع الأطفال أطول من ربة المنزل الوسطية. أما النساء الباحثات عن عمل، يتطلعن إلى مهن اعتذارية. طبعاً ممتاز جداً أن تصبح المرأة ممرضة أو مساعدة للمسنين لأنها تحب هذا العمل، ولكنها مخطئة إن اختارت إحدى هذه المهن لأنها مزعجة ومردودها ضعيف، وإذن هي مهن نبيلة، أي أن تختارها لكبح مشاعر الذنب عندها. الحملات التي ترفع شعار «نحن بحاجة إليكن»، تلعب على وتر الضمير الشرير والضِيق المتراكم. والجواب الواقعي هو: أثبتوا لنا هذا من خلال شروط عمل مناسبة وأجر معقول. الوضع مائل، لأن المرأة تسمح بفرض مواقف وسلوك عليها لن تختارها لو كانت بكامل الحرية.

الأمومة من التابوهات، والذين يعتقدون بإمكانية النظر إلى الأفكار الدارجة من زاوية أخرى، أي من زاوية مصلحة الأم وليس من زاوية الطفل، ليسوا سوى كفار في مواجهة جبهة متحدة ومفزوعة في آن واحد. ومع ذلك ثمة أسباب كافية لفعل ذلك. لأن الأمومة قد تؤثر إيجابياً على المرأة أو سلبياً. قد تجعلها أكثر وعياً لنفسها وأكثر حكمة، ولكن يمكن أن ترميها في حالة من الاستسهال: «عندما وصلتُ بيتي، أحسستُ كأني في عطلة» (العطلة التي تستمر سنوات طويلة ليست مثالية إلا في الأحلام)، وقد تجعلها استسلامية: «أهم شيء هو إيصال أولادي مرحلة البلوغ بسلام، فلِمَ أتعب نفسي بأي شيء آخر؟».

الأم معرضةٌ لإغرائين، إغراء أن توازي بين مهمتها وبين طموحها، و– خطوة أبعد – إغراء أن تعتبر منجزات أطفالها أهم من منجزاتها.

مثال. الكلمة هنا لكاتبة انكليزية متحضرة، كتبت على الأقل كتاباً واحداً مشهوراً عن علم الاجتماع، وأم لطفلتين (العمر 8 و5) وطفل عمره ثلاثة أشهر.

موضوع الحديث: حجم الأسرة.

السؤال: «لماذا أنجبتِ طفلاً ثالثاً بعد أن انتهيت من التحفيض وهمومه؟».

الجواب: «كنت أريد ابناً. فكرت بالموضوع، أريد أن أنجب إنساناً كاملاً».

الناس من حولها يصمتون تماماً.

وتتابع كلامها: «هذا نوع من المازوشية، هل فهمت؟».

هذه المرأة حكمت سلبياً على الشرط الأنثوي، فكرت وتوصلت إلى أن المرأة في عام 1967 ليست إنساناً كاملاً، لم تكن ترجو أيّ تحسن قريب، فاستسلمت وقررت أن تعيش مؤقتاً بالتفويض.

انطباعي أن حالتها ليست نادرة. الفرق بين هذه الانكليزية والكثيرات من النساء أنها تعي تنحيها عن العرش وهروبها المتعَب إلى الأمومة.

برأيي هذا الحل مخيف، ليس فقط لهؤلاء النساء، بل من أجل المستقبل أيضاً. الجميع يرى أنه من الطبيعي أن يكون للمرأة مهمة واحدة، مع استرضائها ببعض الرشاوي (حق التصويت، الهوايات، النوادي، الثقافة والثرثرة)، بدل أن يكون لديها حياة خاصة. هنا نكتشف أن وضعها في الماضي وتفضيل الطفل على حياة الأم لم يتغير، وإنما انتقل فقط من المجال الفيزيولوجي إلى النفسي. عندها يستوجب على المرأة أن تحزن في حال كان المولود أنثى.

بالطبع لستُ مع أن تنبذ النساء أطفالهن، ولكني أعي أننا أمام مشكلة، وعلى النساء أن يصرفن عليها بعضاً من طاقتهن الفكرية. على النساء طرح السؤال على أنفسهن وتحديد موضع مصالحهن الحيوية: ضمن الأسرة أو خارجها. بمعنى آخر: لقد حان الوقت أن تسمح النساء لأنفسهن ممارسة تلك الأنانية الصحية التي يتمتع بها الرجل منذ الأزل، مع ترك الظروف المادية خارج الاعتبار. فأنا لا أظن أن الشخص الذي يهمل مصالحه الحيوية، يملك تأثيراً إيجابياً على محيطه. من يحمل في نفسه حقداً واعياً أو لاواعياً، لا بدَّ من أن يطفح كيله يوماً: سيكون مغلقاً على نفسه إلى درجة يفقد إمكانية تفهم وضع الآخرين بشكل واقعي. كيف سيكون مربياً جيداً إذن؟ عندما تقرر المرأة بكامل ضميرها أن الأسرة هي معنى وجودها، لا بأس إذن. ولكن إن وجدت المعنى خارج الأسرة، فيجب أن تلبي النداء. الباقي هو مسألة إيجاد حلول، وعلى المجتمع أن يمدّ يد العون.

ولكنها مشبوهة، تلك المرأة التي تبحث عن معنى وجودها خارج الأسرة. أو بالأحرى: لا أحد يتصور وجودها أساساً. وهنا نصل إلى وجه آخر من القضية.

نعيش في مجتمع يملك حسّ عالٍ بأخلاقيات العمل. ردود الأفعال السلبية على العناصر الفوضوية بين الشباب مردها إلى حد كبير تهربهم من العمل، أعني أن نفور الناس يجد هنا ركيزة صلبة.

عندما نخطط لمستقبل هولندا، ترانا نفكر أولاً بخلق شواغر للعمل. نظرياً ليس مستغرباً أن نفكر فقط بماذا ستأكل الأجيال القادمة، كيف ستلبس، وأين ستسكن، وكيف ستتسلى. ولكننا عملياً نعطي الأولوية الكبرى للعمل. ومن ثمّ يأتي السكن والترفيه، وربما فقط لأننا نعيش في بلد ذي كثافة سكانية عالية. أما الطعام والملبس فسيتواجدون تلقائياً في حينها.

لهذه المقاربة أسباب وجيهة: الضِيق الذي يشتكي منه العاطلون عن العمل ليس سببه نقصاً في الدخل وتوترات في المحيط العائلي فقط.

في هذا المجتمع تشكل النساء المتزوجات طبقة رفاه غامضة. بالرغم من أنهن يعملن ستين ساعة في الأسبوع، إلا أن أحداً لا يتعامل بجدية مع عملهن. لا يظهر هذا من خلال الوضع العملي اليومي، وإنما من خلال بقايا في القانون. المرأة لها الحق بالحصول على مصروف منزل، ولكن هذا شيء والحق بالحصول على جزء من دخل الأسرة شيء آخر. العائل – عملياً الرجل – هو الذي يحدد مكان الإقامة، مما يعني أن مصالح المرأة ليس لها أيّ وزن قانونياً. بعضهم يقول إن المشاكل في هذا السياق لا تتصعد إلا إذا كان الزواج فاشلاً. ولكن الشيء نفسه يسري على معظم الأمور التي تُظلم فيها المرأة المتزوجة، فالترقيع ممكن طالما العلاقة بين الزوجين جيدة. ولكن أن تكون الأمور «ماشية» في الحياة العملية لا يعني أن علينا الاحتفاظ بوضع أعوج من حيث المبدأ.

النساء يشكلن إذن طبقة رفاه. التناقض يكمن في أنهن لا يخرجن من هذه الفئة حين يجدن عملاً. الآخرون يعتبرون عمل النساء انشغالاً هامشياً. إن لم يواجهن وجوهاً حامضة، ستكون ردود الأفعال احتضانية. صيحات التعجب التي ترافق النساء العاملات هي من نوع الإطراءات التي تحصل عليها «الست المضيفة» نفسه. كم جميل أنك تعملين! (كم جميل غطاء طاولتك!). برافو عليك (رائع أنك صلحت المكنسة الكهربائية بنفسك!) وأقتبسُ: «النساء مرتاحات على الآخر. كلما أشرقت الشمس، استلقين تحتها. وكلما كان الطقس جميلاً، ذهبن مع الأطفال إلى الشاطئ. وعندما يكبر الأطفال يقفن في الصف بضعة ساعات...» إلى آخره. واضح أن القائل يريد منا أن نفنّد قوله، ولكن كلامه يعبّر بطريقة مدهشة عن موقف المجتمع: العمل خارج المنزل والجلوس تحت الشمس الدافئة والذهاب إلى الشاطئ، كلها أشياء متشابهة.

مثال آخر. في مؤتمرٍ عَبَّرَ مترجم مرموق عن أن مهنته تناسب النساء (المتزوجات) كثيراً، أما بالنسبة للرجال فلها مخاطرها. طبيعة الرجال لا تسمح بالاكتفاء بتكرار كلام الآخرين لفترة طويلة، والنساء يعملن فقط من أجل تمضية الوقت، أليس كذلك؟

عمل المرأة خارج المنزل يعتبر نوعاً من أنواع سدّ وقت الفراغ، كهواية، أو إحدى النزوات الكثيرة التي نتوقعها من النساء. ولا ينطبق هذا من الناحية النفسية فقط، بل الاقتصادية أيضاً.

لذلك لا يؤخذ دخل المرأة بعين الاعتبار أثناء دراسة طلب قرض قدمته الأسرة من أجل شراء السكن. ومن هنا العنصرية (التي تمارس على الرجل) في قانون منح الجنسية بعد الزواج: المرأة الأجنبية تصبح هولندية أوتوماتيكياً، بينما على الرجل الأجنبي أن يتبع الطريق المتعب للحصول على الجنسية. هو منافس في سوق العمل، أما هي فلا. ولذلك أيضاً ما زال عندنا في هولندا تدبيرات رسمية لتقليص عدد الموظفين، والتي تُعنى بأولوية إقالة النساء المتزوجات. هذا يعني أنه ما زال ممكناً تعطيل الشروط الاجتماعية الاعتيادية (مهارة، كفاءة، مدة الخدمة) عندما يخصّ الأمر النساء المتزوجات.

وهذه العقلية تُطبّق بمنهجية كبيرة ضمن نظام الضرائب الهولندي. لا أحد يهتم بالمردود المادي عندما يتعلق الأمر بممارسة الهوايات. لذلك يُسمح للمرأة المتزوجة أن تقوم بعمل أجره ضعيف أو بعدد ساعات قليلة. والغالبية تُساير نظام الهوايات: الدخل المتوسط لهذه الفئة تقدر بـ 2009 فلورين لعام 1962.

وفي حال عدم مسايرة هذا النظام، هناك من يُذكِّرُهن بأن تجاوزَ معايير المجتمع يستحق العقاب. وهكذا ينفضح الوهم بأنهن عضو كامل. المرأة التي تصل بدخلها إلى قمة الطبقة الوسطى وتكون متزوجة برجل ندّ، عليها أن تعيد نصف دخلها إلى الدولة. زوجان عاملان (مع طفلين) تجاوز دخلهما حداً معيناً، يدفعان ضرائب أكثر مما لو كانا عازبَين. لا مجال هنا للأرقام، ولكنها موجودة عندي. على فكرة، من الممكن صياغة هذه الأرقام بأنفسنا على أساس جداول الضرائب المعروفة.

المرأة في هذه الفئة تدخل خانة العمل الفائض، ليس ضريبياً وإنما عملياً. والعمل الفائض، كما تعبّر الكلمة، هو من الزوائد التي يجب فرض ضريبة الرفاه عليها. ما يقوله المجتمع عبر جابي الضرائب للمرأة: هذا ليس مكانكِ، اذهبي واصنعي باقات الورود.

لن يكون كلّ هذا مزعجاً إلى هذه الدرجة لو تغيّر شيء في المستقبل القريب. ثمة خطط كثيرة لتغيير نظام الضرائب عندنا، ولكني لم أقرأ حتى الآن أيّ حرف عن المرأة المتزوجة العاملة. هذا يعني أننا لن نتوقع في العشرين سنة القادمة أي تغيير فعلي في النهج. لن يتجاوز الأمر بضع ترقيعات كتلك التي اقترحها المجلس الاجتماعي الاقتصادي، والتي إن تمّ تطبيقها ستكون متأخرة بسبب ارتفاع مستوى التكلفة.

حان الوقت برأيي أن تضغط النساء سياسياً في شتى المجالات. عليهن اكتشاف أيّ حزب يملك شجاعة أن يضمّ تغيير قانون الإجهاض في برنامجه السياسي. يبدو لي هذا من المجالات التي تنعكس سلباً على المرأة جرّاء ضعف مشاركتها في الحياة السياسية. أنا متأكدة أن قلوب النساء على هذه القضية أكثر من الرجال. ربما أكون مخطئة، ولكن من المشوّق فعلاً أن نعرف عدد النساء اللواتي يردن أن يكون القرار في أيديهن. في مجتمعنا الأبوي يسألون الأطباء فقط.

من الواجب أيضاً أن يفعلن كل شيء كي يوصلن بعض المسائل إلى البرامج السياسية. على سبيل المثال، مسألة ألا يطبّق الضمان القانوني – التعيين والترقية والتقاعد والإقالة – على النساء المتزوجات والعازبات بطريقة تختلف عن الرجال. هذه طبعاً مجرد بداية: معظم الصعوبات في هذا المجال لا يمكن حلّها بوسائل قانونية. ولكنها بداية أساسية، وإلا ستُطلَق أيادي أصحاب العمل حرة.

وأخيراً، على النساء أن يساندن تلك الأحزاب التي تسعى لتعزيز اندماج المرأة المتزوجة في المجتمع، والتي تضع برنامجاً ضريبياً واضحاً، بدل أن تكتفي بجملة واحدة في منشور انتخابي. ما تحتاجه النساء، باختصار، هو موقف كفاحي. ليس على المستوى الجماعي فحسب، بل على المستوى الفردي أيضاً.

في هذه المقالة تصرفتُ كما لو أن المرأة، كفرد، تعيش في الفراغ. فعلتُ هذا عن وعي، إذ يبدو لي ضرورياً من حيث المبدأ أن تفكر المرأة بوضعها بشكل منفصل عن السياق المعيشي. غالباً ما تفعل العكس، تحاكم الأمور من منظار علاقتها مع زوجها وأطفالها وبيئتها. وهذا السياق غالباً ما يصيبها بالشلل، ويفقدها القدرة على طرح الأمور بشكل مبدئي.

فإذا أرادت المرأة أن تعمل واعترض زوجها على ذلك، يصبح من الصعب جداً بالنسبة لها تدبير الأمور بطريقة سلسة. بغض النظر عمّا تتعرض له من تعطيل، ستواجهها مقاومة مادية: عمل زوجها هو المعطى الأول، وحتى الآن هو المركز الذي يدور حوله كل شيء. وثمة مقاومة نفسية: تخاف أن تخاطر بزواجها.

في حال درَستْ الموضوع من حيث المبدأ، ستكتشف أن الأمور تختلف: زوجها هو الذي يريد أن يقرر مسار حياته وحياتها معاً، وهو الذي يسمح لنفسه بميزات يمنعها عن زوجته، ويتصرف كالمسيطر بدل الحليف.

المرأة تملك كل الحق أن تكافح في هذا المجال. وكفاحها ذو معنى، والهدف أن يرى الطرفان الأمور بأبعادها الصحيحة.

في حال وَعَت جماعة كبيرة من النساء حقوقها وواجباتها نحو نفسها، فهذه هي أول خطوة نحو الحرية والاندماج الاجتماعي. وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه، فمادياً الأمور ليست على ما يرام. عندنا كل الحجج لنعتقد أن المزيد من مشاركة المرأة المتزوجة في العملية الإنتاجية، سيدفع مؤقتاً نحو تعزيز دورها الفاتر.

ستزيد مستقبلاً إمكانيات العمل الجزئي (أي بعدد ساعات محدودة)، خاصة عندما يكتشف أصحاب العمل عدد الراغبات بالوظيفة. بيد أن هذا العمل يرتبط، أولاً، بما يسمّى بالسُخرة ولن يختفي سريعاً تصورنا عنه كوسيلة لملء أوقات الفراغ. وثانياً: لا تملك هذه الأشغال إمكانية الترقي على سلم العمل. وثالثاً: لن يحيد خطر أن تعمل الموظفة تحت مستواها.

ولكن ثمة عاملٌ إضافي، وهو أن سوق العمل لا يستوعب النساء حاملات الشهادات العليا أو المتخصصة. من ترغب بإنجاز عمل مكاتب بسيط، ستجد عملاً في كل مكان. أما المناصب التي تتطلب كفاءات معينة، فهي ليست أقل وفرة فحسب، وإنما ارتباطها بالمكان أكبر، بحيث تعجز المرأة المتزوجة عن الوصول إليها رغم المسافات القصيرة في هولندا. (ليس خطأً مبدئياً أن يتم إقالة النساء المتزوجات قبل غيرهن، بل هو تصرف غير منطقي أيضاً. فمن الصعب إيجاد عمل آخر لهن، نظراً لضعف حرية الحركة.)

الأفق الوحيد الذي أراه هو تقصير ساعات العمل. عندما يعمل الجميع ثلاثين ساعة في الأسبوع، سيتمكن الزوجان من التوفيق بين تربية الأطفال ومهنة كاملة القيمة، وتتمكن النساء من صعود سلم العمل من دون انسحاب متكرر.

بعضهم يقول لي: هل تظنين حقاً أن النساء يحققن السعادة إذا خرجن للعمل وتحررن. جوابي: لا أدري، ولكن ليست هنا المسألة. الأحرى أن يُقارن عمل المرأة المتزوجة بفرص التعليم. الأمران يساعدان الناس على توسيع أفقهم، ويحثّان على الاهتمام بالعالم عبر تزويد الناس بركائز يعتمدون عليها.

هذا ليس كل شيء. صاحب الروح الحرة لا يحتاج أن يشلّ نفسه بالمحرّمات والشعور بالذنب والظروف المادية. الناجح بتحقيق قدراته يشعر بالرضى. والذي يتم تقييمه من خلال عمله، بدلاً من منصب زوجه، لا داع أن يشعر بأنه فائض. الطريق نحو الشعور باحترام الذات سالك.

التحرر والاندماج الاجتماعي يمنحان المرأة فرصة هجر الشرط الأنثوي. منذ قرون ومصير النساء يشبه مصير (دون جوان): هو رجل فقط، وهن تحددهن أنوثتهن. الفرق هو أن (دون جوان) استثناء وشخصية هزلية وأسطورة مكشوفة بالنسبة لغالبية الرجال.

عندما تنجح المرأة أن تكون إنساناً في الدرجة الأولى، ومن ثمّ امرأة، سيؤثر ذلك على علاقتها مع طفلها إيجابياً. في الجدالات حول الأمومة يتصرف الناس كما لو أن الأطفال يبقون صغاراً طيلة الحياة. لكن هذا ليس صحيحاً لحسن أو لسوء الحظ. حالياً الأبناء الكبار يقدّرون أمهاتهم من الناحية العاطفية فقط. قد يختلف الآباء والأبناء بالرأي، ولكن من الصعب مناقشة الأم حول قضايا كثيرة لأنه ليس عندها فكرة عن المجتمع. كم جميل أن تملك المرأة ما تمنحه لأطفالها أكثر من العناية بهم فقط!