وثيقة:الترجمة النسوية

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

شعار مؤسسة المرأة و الذاكرة.png
مقالة رأي
تأليف هالة كمال
تحرير غير معيّن
المصدر مؤسسة المرأة والذاكرة
اللغة العربية
تاريخ النشر 2015-01-01
مسار الاسترجاع http://www.wmf.org.eg/publication/النقد-الأدبي-النسوي/
تاريخ الاسترجاع 2017-12-28


هذا المقال هو الجزء الأخير من مقدمة كتاب النقد الأدبي النسوي.



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مؤسسة المرأة والذاكرة



إن مفهوم الترجمة النسوية كما أراه وأطرحه هنا يشير إلى مساحة معرفية وممارسة تطبيقية تتلاقى عندها النظرية النسوية بدراسات الترجمة، وهي مساحة آخذة في التبلور حاليا في إطار دراسات الترجمة تحت مسمى "قضايا الجندر في الترجمة" و"علاقة الترجمة بالجندر"، ضمن جهود بحثية انطلقت شرارتها الأولى في ثمانينيات القرن العشرين، وتحديدا على يد لوري تشامبرلين في مقالتها عن "الجندر والمجاز في الترجمة" (1988)، حيث ركزت على عدد من الصور المجازية المستخدمة في الإشارة إلى الترجمة تتسم بملامح جندرية وكأن علاقة النص المترجم بالأصل هي علاقة امرأة برجل.

وقد برهنت على ذلك بتحليل بعض التوصيفات النظرية المتصلة بفعل الترجمة وعلاقة النص الأصلي بالمترجم، ومنها: الخيانة والإخلاص، واللغة الأم، والترجمة باعتبارها غزوا نصيّا واختراقا ثقافيا، وما إلى غير ذلك من تعبيرات مجازية. ثم شهدت التسعينيات طفرة ملحوظة في دمج المنظور الجندري في دراسات الترجمة، وذلك بصدور كتاب شيري سايمون عن "الجندر في الترجمة: الهوية الثقافية وسياسات الإرسال" (1996)، ثم كتاب لويز فون فلوتو عن "الترجمة والجندر: الترجمة في "عصر النسوية" (1997) والذي التفتت فيه المؤلفتان إلى مسألة الموقف الجندري في الترجمة، نظرية وممارسة، وتسليط الضوء على بعض النساء المترجمات منذ العصور الوسطى فصاعدا، مع الربط بين قضايا اللغة والترجمة والثقافة و النسوية. ولعل من آخر وأهم الكتب الصادرة في هذا المجال هو كتاب يضم عددا من الدراسات بعنوان "ترجمة النساء" (2011)، تتطرق إلى قضايا الصوت والوساطة والتأويل والذاتية، مع تطبيقات على ترجمات و كتابات نسائية متنوعة.

وأود فيما يلي أن أوضح ما أقصده بالترجمة النسوية، وهو مصطلح تبلور في ذهني من واقع انتمائي للفكر النسوي وممارستي للترجمة، فأتوقف أمام العلاقة بين النظرية النسوية ودراسات الترجمة، وأتأملها في سياق ترجمة النص النسوي إلى اللغة العربية، وهو فعل يستدعي في رأيي عدة شروط أساسية لضمان دقة الترجمة لغويا وصحة نقل الفكر معرفيا، وهي شروط يمكن إيجازها في الآتي: لا يكفي لترجمة النص النسوي امتلاك زمام اللغتين المعنيتين، وإنما يتطلب الأمر إدراكا للمفاهيم الفكرية الواردة والكامنة في النص النسوي بل ولتطور النظرية النسوية ومصطلحاتها، وما قد تتضمنه الترجمة من ضرورة صياغة مصطلحات جديدة. ولابد من وجود وعي بعلاقات القوى الكامنة في فعل الترجمة، والترجمة باعتبارها فعلا تأويليا تقوم فيه المترجمة أو المترجم بدور الوساطة بين النص الأصلي والنص المترجم، وتداعيات الموقف من النص على ترجمة النص. كما يجب إدراك خصوصية الخطاب النسوي من حيث كونه في الأساس خطابا سياسيا يستهدف تمكين النساء معرفيا، وهو خطاب وإن لم يكن موجها إلى النساء فحسب، إلا أنه يخاطب القارئات بشكل خاص ضمن عموم القراء. وأخيرا، التعامل مع ترجمة النص النسوي باعتبارها فعلا سياسيا لا يقتصر على نقل المعرفة والثقافة والفكر، بل يسعى إلى بناء معرفة جديدة نسوية باللغة العربية، بما يساهم على المدى البعيد في إحداث تغيير اجتماعي من خلال رفع الوعي وتمكين النساء معرفيا. ومن هنا سأتناول فيما يلي بعض المفاهيم الراسخة في نظرية الترجمة وأتأمل تجلياتها عند ممارسة الترجمة من منظور نسوي.

أولا: الترويض أم التغريب

يرى لورنس فينوتي أن أي عمل مترجم إنما هو نتاج استراتيجيتين اثنتين أساسيتين في الترجمة، وهما الترويض والتغريب. والمقصود بترويض النص (domestication) هو تعامل المترجمة والمترجم مع النص بهدف تقريب النص من جمهور القراء، أي عدم الاكتفاء بالنقل من لغة إلى أخرى وإنما السعي إلى إضفاء سمة الطلاقة التامة على النص المترجم لغويا وأسلوبيا بما يجعل النص بعد ترجمته يبدو وكأنه كتاب مؤلف غير مترجم، مكتوب باللغة المترجم إليها ونابع من الثقافة المترجم إليها، وهي كما يوضح لنا فينوتي، أقرب إلى النموذج المثالي في ممارسات الترجمة التقليدية التي استندت إلى قاعدة غياب المترجم (invisibility) وشفافية النص (transparency) وطلاقة الترجمة (fluency) ويمتد منطق الترويض ليؤثر في معايير اختيار النصوص القابلة للترجمة لقربها أو على الأقل عدم تنافرها مع الأنواع الأدبية والسمات الأسلوبية بل ونماذج الأدب المعتمد (The literary canon) في اللغة المترجم إليها، وهي الاستراتيجية التقليدية السائدة لدى معظم المترجمين.

أما التغريب (foreiginization) كاستراتيجية في الترجمة فيشير إلى نقل النص من لغة إلى لغة مع الحفاظ على ملامحه اللغوية والأسلوبية والثقافية عند ترجمته، دون تطويعه وترويضه بما يساير اللغة والثقافة المنقول إليها. وتقوم على فكرة نقل القارئ إلى النص، أي الحفاظ على خصائص النص الأصلي وإتاحتها لغويا للقراء من خلال الترجمة، مع تطويع اللغة المترجم إليها وقواعدها الأسلوبية بما يتناسب مع النص الأصلي وسياقه اللغوي وتاريخه الثقافي.

ويرى فينوتي أن التغريب في الترجمة يتضمن قدرا من "المقاومة" (resistancy) لما في الترويض من "عنف" تجاه النص الأصلي. وفي سياق ترجمة النصوص إلى اللغة الإنجليزية، يكتسب التغريب قيمة إضافية ممثلة في عدم إخضاع السياقات اللغوية والثقافية للنص المترجم إلى اللغة الإنجليزية بما تتمتع به من سيادة وهيمنة لغوية وثقافية في عصرنا الحالي. بل يذهب فينوتي إلى أن "التغريب عند الترجمة إلى اللغة الإنجليزية يمكن أن يكون شكلا من أشكال مقاومة الاستعلاء العرقي والعنصرية والنرجسية الثقافية والإمبريالية."

وعند تأمل مفهومي الترويض والتغريب في سياق الترجمة النسوية، أجد أن الفكر النسوي بشكل عام يميل إلى تأكيد الخصوصية والتعددية ويقاوم أشكال الهيمنة على تنوعها. وبالتالي فإن الترجمة النسوية هي بالضرورة أقرب إلى اتباع استراتيجية التغريب، لما فيها من عدم محو للسمات اللغوية والأسلوبية والثقافية للنص المنقول، وعدم إخضاع النص المترجم إلى منظومة اللغة المترجم إليها حتى بعيدا عن سياق الهيمنة. فإذا كانت الترجمة تتم أساسا بين نصين ينتميان إلى منظومة تختل فيها علاقات القوى، فإن الترجمة النسوية باستنادها إلى الفكر النسوي تستدعي منح الطرف المهمش صوتا، ومقاومة كافة أشكال العنف و التمييز والهيمنة على مستوى الفعل – أي عند ممارسة الترجمة. ولكن اللافت للنظر أنه في حالة الترجمة النسوية يصبح التغريب مضاعفا، إذ لا يقتصر الأمر على الجوانب اللغوية والأسلوبية والأنواع الأدبية والنصوص المعتمدة، وإنما يتمثل التغريب أيضا في الموضوع والمضمون، إذ لا تكتفي الترجمة النسوية بالتعامل مع إشكاليات الترجمة بتفاصيلها وأبعادها، وإنما تمثل ترجمة النص النسوي تحديا على مستوى غربة وغرابة المضمون. فعند ترجمة النص النسوي ترجمة نسوية إلى اللغة العربية تواجه المترجمة والمترجم إشكالية الاختيار بين الترويض والتغريب، بما قد يحققه الترويض من طلاقة وتقريب لمضمون النص النسوي من جانب، وبين التغريب المتسق منهجيا مع الفكر النسوي وإن كان قد يؤدي اتباعه كاستراتيجية في الترجمة إلى مزيد من إبعاد القارئة والقارئ عن الفكر والنص النسوي. وهي مسألة تتفاقم مع عدم إلمام المترجم بسياق النص النسوي وتاريخ الفكر النسوي محليا وعالميا، وربما تتجسد أكثر ما تتجسد عند ترجمة المصطلحات المنتمية إلى مجال الدراسات النسوية والجندرية، بما يتطلبه الأمر هنا من قدر من المعرفة والتخصص في الترجمة بل وفي القدرة على صياغة مصطلحات جديدة.

ثانيا: الترجمة الحميمية والمتخصصة

إن الفرق بين ترجمة النص النسوي ومفهوم الترجمة النسوية كما أراه يتمثل كذلك في الموقف من النص المترجم، إذ تتطلب الترجمة النسوية من المترجمة/المترجم اتخاذ موقف داعم للفكر النسوي وعارف بالنظرية النسوية وتفاصيلها الواردة في الكتاب الخاضع للترجمة. وأنا أستدعي هنا مفهومين من نظرية الترجمة، وهما مفهوم "المترجم المتخصص" كما طرحه إيمانويل واليرستين ومفهوم علاقة التوافق (simpatico) لدى لورنس فينوتي. إذ يرى إيمانويل واليرستين أن المشاكل المتعلقة بترجمة المصطلحات في العلوم الاجتماعية تنتج في كثير من الأحوال عن غياب التخصص في الترجمة، إذ يقتصر الاهتمام بمعرفة المترجم باللغتين المعنيتين في عملية الترجمة دون الالتفات أو الاهتمام بالتخصص العلمي والمعرفي لدى المترجم: "يتعين على المترجم أن لا تقتصر مهارته في الترجمة وأدواتها وإنما أن يكون ملما بالأدبيات المتصلة بالمجال المعرفي على مدار فترة زمنية طويلة، ويستحسن أن يكون مهتما اهتماما مباشرا بالموضوع الذي يتم تناوله في النص." وهو أمر يراه يتطلب جهدا لتدريب المترجمين في ترجمة العلوم الاجتماعية ممن يتمتعون بمهارات الترجمة والمعرفة بالعلوم الاجتماعية. ومن ناحيته طرح لورنس فينوتي مفهوم التعاطف والتوافق أي التقارب الفكري بين المترجم والمؤلف، إذ يرى أن العلاقة بين الطرفين قد لا تقتصر على وجود توافق و"استلطاف" بين المترجم والمؤلف بل من وجود "هوية مشتركة" تجمعهما. إلا أن الإشكالية التي قد يحملها هذا التماهي بين موقف المؤلف والمترجم في رأيه تتمثل في هيمنة صوت المؤلف على النص وتغييب موقف المترجم، وهو ما يرتبط بالتالي بمسألة شفافية الترجمة وغياب المترجم. ولكن فينوتي يذهب إلى أبعد من ذلك إذ يوضح من خلال تجربته الشخصية في الترجمة إلى أن "الحميمية" بين الطرفين لا تؤدي بالضرورة إلى تغييب صوت المترجم، بل على العكس هي مساحة تجعل المترجم أحيانا يلجأ إلى "المقاومة" وعدم "ترويض" النص لتماهيه مع المؤلف فكريا ومشاركته كطرف في إعادة إنتاج النص بلغة مغايرة، بما لا يخلخل "أمانة" الترجمة التي قد تعتبر محسومة في إطار "الحميمية".

وهكذا تطرح نظرية الترجمة نموذج التخصص والتوافق الفكري بين المؤلف والمترجم، وهي أمر يثير تساؤلات عند تطبيقه على مجال ترجمة النصوص النسوية، فلا يقتصر الأمر على إشكاليات الحميمية بين المؤلفة والمترجمة النسويتين، أو مشكلة تشويه النص النسوي عند ترجمته من قبل مترجم معاد للفكر النسوي، وهما حالتان نتبين فيهما صوت المترجم في عملية الترجمة، ولكن الأزمة الحقيقية في رأيي تكمن في عدم التخصص حين تأتي الترجمة "موضوعية" ولكن مغلوطة لا بسبب عداء للفكر النسوي بقدر عدم المعرفة بأعماقه وأبعاده، فتكون المحصلة نص منقول حرفيا أكثر من كونه مترجما من لغة إلى أخرى. فلا أثر فيه لمترجم حميمي ولا معادٍ يترك كل منهما بصمته على النص، بما ينعكس على فهم القراء للنص النسوي وبالتالي يؤثر في تقييمهم للنص النسوي المترجم، بل والفكر النسوي عامة. ففي مصلحة النص النسوي أن يكون الطرف القائم بالترجمة مرئيا وصوته مسموعا.

ثالثا: المترجم المرئي والمترجمة المرئية

تعتبر مسألة تواجد و/أو غياب المترجم أو المترجمة في النص من القضايا المهمة التي عبر عنها لورنس فينوتي بمفهوم "المترجم الخفي" (invisible translator) وقد جاء بالتالي ليقلب القاعدة التقليدية للترجمة السليمة التي تقوم على "الشفافية" (Transparency) أي الإيحاء بأن لغة النص المترجم هي لغته الأصلية وعدم وجود أية مؤشرات على كون النص مترجما. فقد أشار فينوتي إلى ما أسماه "وهم الشفافية" الذي يخفي وراءه دور المترجم كوسيط يتدخل في نقل المعنى، وذلك على اعتبار أن الترجمة ليست فعلا موضوعيا وإنما هي محصلة تأويل المترجم للنص الذي يترجمه، وبالتالي فكلما كان المترجم مرئيا في النص كلما ازدادت موضوعية النص الفعلية. أما من المنظور النسوي، فإن "المترجمة الخفية" تتناقض منهجيا مع الفكر النسوي المعترف بأهمية الاعتراف بالذاتية كأساس للموضوعية، وعلى جعل المخفي مرئيا والمسكوت عنه مسموعا. وبالتالي فإن الترجمة النسوية تتفق مع نظريات الترجمة الكاشفة لما تحمله شفافية النص من أوهام إنما تشوه الواقع بتجاهل دور المترجمة أو المترجم في تأويل النص عند نقله من لغة إلى أخرى. ولا يقتصر الأمر هنا على نقد ممارسات "المترجم الخفي" فحسب، وإنما تتقاطع نظرية الترجمة هنا مع النظرية النسوية في جوانبها التفكيكية ونظرية التلقي، والتي تنظر إلى الكتابة باعتبارها تأويلا، وإلى الترجمة بالتالي بوصفها إعادة كتابة (rewriting) وتمثيلا (representation) لنص لا نقلا له، وهو ما يؤكده على سبيل المثال ديفيد روس حين يشير إلى سلطة المترجم في الحكم على المعنى المقصود والاختيار بين المترادفات خلال عملية الترجمة، وما تشير إليه ماريا تيموتشكو في تحليلها لدور الترجمة كعملية تأويلية تتأثر بجوانب ذاتية وأيديولوجية لدى المترجم أو المترجمة، مما يجعل عملية الترجمة أقرب إلى تأويل للنص وتمثيل له لا صيغة مطابقة شفافة في صيغته المترجمة. ومن هنا فإن الترجمة النسوية تحرص على عدم ادعاء موضوعية الترجمة، والكشف عن المترجمة أو المترجم بالاهتمام بهوامش المترجمة وكلمة الترجمة وأي عتبة أخرى من عتبات النص. بل وتتجاوز تلك النقطة فتسعى إلى تسليط الضوء على الوجود الأنثوي في النص من خلال تأنيث اللغة على سبيل المثال بما يعكس تواجد المرأة في النص مؤلفة ومترجمة وذاتا وقارئة.

رابعا: ترجمة الخطاب النسوي

توضح سوزان باسنيت في كتابها عن "دراسات الترجمة"، أن الترجمة من منظور النظرية الأدبية (Literary Theory) تجمع بين علم اللغويات (Linguistics)، ووبين نظرية التلقي (Reception Theory) وبين نظريات التأويل والتمثيل ( Interpretation and Representation). وأود أن أضيف هنا أن ترجمة النص النسوي تجمع بين كل هذا وذاك بالإضافة إلى النظرية النسوية (Feminist Theory). وسأتوقف هنا أمام نقطة تتقاطع عندها النظرية الأدبية مع الدراسات الثقافية مع النظرية النسوية ودراسات الترجمة، فأتناول فيما يلي الترجمة النسوية باعتبارها فعل قراءة، وفعل إعادة كتابة. فعلى سبيل المثال، نجد جاياتري سبيفاك في مقالتها "سياسات الترجمة" (1993) تطرح فكرة "استسلام المترجمة للنص" بمعنى انصياعها للنص الأصلي بما فيه من سمات لغوية وجوانب بلاغية، وذلك من منطلق كون "الترجمة هي أكثر أفعال القراءة حميمية"، وبالتالي "طالما لم تنل المترجمة الحق في أن تصبح قارئة حميمة للنص، فلا يمكنها الاستسلام للنص، ولا تستطيع الاستجابة لنداء النص".

إن مهمة الاستسلام هنا هي السبيل لنقل النص بأكبر قدر من الحساسية والوعي بخصائصه اللغوية والأسلوبية، ولكنها مهمة يجب أن يصاحبها وعي المترجمة بالسياق الذي تترجم منه، وهكذا توجه جاياتري سبيفاك أنظارها ومداركها وأدواتها كمترجمة صوب النص في لغته الأصلية وسياقه الثقافي. وهي حين تتوصل هنا إلى تلك المنظومة التنظيرية فإنما تستخلصهما بناء على تجربتها الشخصية في ترجمة نصوص لكاتبات هنديات إلى اللغة الإنجليزية، وتنطلق في صياغة أفكار حول علاقات القوى التي يتضمنها فعل الترجمة، جامعة بين علاقات القوى الكامنة في فعل الترجمة (بين المؤلفة والمترجمة والقارئة)، وعلاقات القوى في إطار مابعد الكولونيالية (بين المؤلفة والمترجمة الهندية وجمهور القراء باللغة الإنجليزية في الغرب)، وعلاقات القوى بين النساء والنسويات (نساء الشرق والغرب). وبالتالي فهي حين تتحدث عن الطرف القائم بالترجمة فهي تتحدث أحيانا عن المترجمة مستخدمة صيغة التأنيث غير المألوفة ("translates") وأحيانا تصف المترجم بصفة مابعد الكولونيالية (postcolonial translator).

وإذا كانت جاياتري سبيفاك قد انطلقت من موقعية المترجمة كقارئة، فإننا نجد باربارا جودارد في دراستها الرائدة في "التنظير للخطاب النسوي/الترجمة النسوية"، وقد استندت إلى مفهوم الترجمة باعتبارها إعادة كتابة للنص الأصلي (rewriting)، بما يجعل فعل الترجمة بمثابة إنتاج للنص لا محاكاة وتكرار له في لغة أخرى. ومن ناحية أخرى، فمثلما يقوم الفكر النسوي على "الاختلاف" بين الجنسين كأساس فكري للالتفات إلى التجربة النسائية وعدم تقييمها تبعا لمنظومة معيارية واحدة سائدة، كذلك تلتفت الترجمة النسوية إلى مواطن الاختلاف لا التطابق بين النص الأصلي والنص المترجم. وتضيف باربارا جودارد قائلة إن المترجمة النسوية إذ تسعى إلى تأكيد اختلاف موقفها النقدي عما هو سائد والإعراب عن سعادتها بممارسة القراءة وإعادة القراءة، والكتابة وإعادة الكتابة، فإنها تعمد قاصدة إلى ترك بصماتها على النص المترجم باستخدام الحروف المائلة أحيانا على سبيل التعليق في المتن، وكذلك فيما تكتبه في الهوامش، أو حرصها على كتابة مقدمة للعمل المترجم.

ولكن إعادة الكتابة لا تقتصر على المفهوم النظري المتأثر بالنظرية الأدبية، وتحديدا المتمثل في نظرية التلقي والنظرية التفكيكية، بل تلتفت الباحثات النسويات إلى تعدد الترجمات للنص الواحد وبالاستناد إلى ما بينها من اختلافات يؤكدن أن الترجمة تتضمن إعادة كتابة للنص. ومن هنا نجد بعض الباحثات المتخصصات في الترجمة والمنظور الجندري، مثل لويز فون فلوتو، التي تشير إلى أهمية مراجعة ما تم ترجمته من كتابات نسائية أو نصوص مقابلات مع شخصيات نسوية للكشف عن مواطن سوء الترجمة و/أو التشويه، كاشفة على سبيل المثال عما تعرضت له إحدى المقابلات المنشورة مع الرائدة النسوية سيمون دي بوفوار من حذف وتعديل في النسخة المترجمة من المقابلة، وهي تغييرات استهدفت خطاب سيمون دي بوفوار النسوي.

أما شيري سايمون فتذهب إلى أبعد من فرض التواجد النسوي على النص المترجم أو ترجمة الخطاب النسوي بوصفه قراءة أو إعادة كتابة، كما أنها لا تكتفي بالتركيز على محورية النص الأصلي أو النص المترجم، بل تنطلق من مفهوم "الأمانة" في الترجمة، فتتجاوز به حدود الترجمة الحرفية أو ترويض النص، ليشير إلى الالتزام بمشروع كتابة يشترك فيه الطرفان، أي المؤلفة أو المؤلف من ناحية والمترجمة أو المترجم من ناحية أخرى. ولكن شيري سيمون تثير إشكالية مهمة وهي المتمثلة في موقف المترجمة من ترجمة نص لا تتوافق معه فكريا بل وتعاديه أيديولوجيا، فتطرح السؤال الآتي: ماذا عسى المترجمة النسوية أن تفعله إذا وجدت نفسها تتعامل مع نص تعارضه على مستواه الأيديولوجي أو الجمالي؟ وهو سؤال يعود فيحيلنا إلى مسألة "الحميمية" ونقيضها العداوة، وتجيب عليه بما يتطلبه ذلك الأمر من التزام بترجمة النص مع "مقاومته" من خلال الالتزام باستقلالية المترجمة وإعلاء صوتها والتعبير عن موقفها في الهوامش والمقدمات.

وهكذا تتبلور أمامنا سمات الترجمة النسوية من خلال تأمل الإضافات التي أثرت بها النظرية النسوية دراسات الترجمة، إذ نجد الباحثات المتخصصات في دراسات الترجمة من منظور جندري وقد انطلقن من داخل نظرية الترجمة فقمن بتفكيك بعض المفاهيم كالأمانة والحميمية والتخصص والترويض والتغريب والتواجد المرئي وإعادة الكتابة، مع الجمع بينها وبين بعض المفاهيم الأساسية في الفكر النسوي كالاختلاف و الفاعلية والصوت والمقاومة، ونقلها إلى سياقات ثقافية متنوعة. هذا ولا توجد سوى دراسات معدودة عن الترجمة بين اللغتين العربية والإنجليزية من منظور نسوي و/أو جندري، وهي على ندرتها تكون منشورة باللغة الإنجليزية. وكلي أمل أن يثير هذا الكتاب الاهتمام بالكتابة النسائية و النقد الأدبي النسوي وكذلك الترجمة النسوية.

استراتيجيات ترجمة النص النسوي إلى اللغة العربية

أولا: الإطار النظري

إنني أرى أن أية ممارسة جادة للترجمة تتطلب قدرا من المعرفة النظرية بإشكاليات الترجمة واستراتيجياتها وممارساتها، وهو الأمر الذي تتضاعف أهميته عند التعامل مع نص معرفي متخصص وتحديدا عند ترجمة دراسات ذات طابع أكاديمي. ومن هنا فقد انطلقت في ترجمتي لهذا الكتاب من عدة مواقع معرفية تجمع بين الدراسات الأدبية والنظرية النسوية (والتي تمثل السياق العام لمحتوى الكتاب أي موضوع الترجمة) وبين دراسات الترجمة (التي تجمع بين نظرية الترجمة وممارساتها التطبيقية). وقد قررت منذ البداية أن أتوقف أمام مقولات مؤسسة في نظرية الترجمة مثل ما حدده يوجين نايدا على سبيل المثال بشأن العوامل الأساسية المتعلقة بالترجمة، وهي: طبيعة الرسالة التي يتم نقلها، وغرض المؤلفة أو المؤلف، وبالتبعية المترجمة أو المترجم من نقل تلك الرسالة، وأخيرا نوعية الجمهور المتلقي للترجمة. ومما سهل الأمر هو اضطلاعي بمهمة اختيار المقالات ثم ترجمتها مما يعكس فهما للرسالة التي أهدف إلى إيصالها من هذا الكتاب، وهي التعريف بمدرسة النقد الأدبي النسوي الغربية وتقديم نماذج تطبيقية للنقد الأدبي النسوي مع محاولة الترويج لهذه المدرسة النقدية التي أعتبر نفسي منتمية إليها منهجيا. وفي هذا المنطلق توافق بين الرسالة التي تحملها المؤلفات في مقالاتهن وبين ما أهدف إليه من ترجمة تلك النصوص إلى العربية، إذ يجمعنا السعي إلى بلورة منهج نقدي أدبي نسوي.

كما كنت واعية منذ شروعي في اختيار المقالات بنوعية الجمهور المتلقي للترجمة، فهذا كتاب صادر ضمن سلسلة "ترجمات نسوية" التي تهدف إلى التعريف بمناهج البحث النسوي/الجندري عبر التخصصات، وتستهدف الباحثات والباحثين المصريين والعرب ممن يجدون صعوبة في الوصول إلى مصادر المعرفة النسوية بسبب عوائق لغوية وعراقيل بحثية خاصة بسياقنا الجامعي والأكاديمي المصري وندرة المصادر إن لم يكن غيابها التام عن أرفف المكتبات الجامعية المصرية، وخاصة في مجال كالدراسات النسوية و الجندرية. ولا يقتصر الأمر هنا على الباحثات والباحثين الأكاديميين المتخصصين، بل أتوجه بهذا الكتاب أيضا إلى عموم القارئات والقراء المهتمين بالنقد الأدبي عامة فيمكنهم هنا التعرف على إحدى مدارسه، أو من المهتمين بالدراسات النسوية والجندرية فيجدون في متن هذا الكتاب إضاءة على تجليات النظرية النسوي على النقد الأدبي. وأخيرا فإنني أتوجه هنا أيضا إلى المبدعات والمبدعين المهتمين بالتعرف على تاريخ النقد الأدبي النسوي ومعاييره وأدواته المستخدمة عند قراءة النص الأدبي.

وفيما يتعلق بمنهجيتي الأساسية في الترجمة، فاستنادا إلى النظرية النسوية ودراسات الترجمة أجدني أميل إلى استراتيجية التغريب لا الترويض في التعامل مع النص عند ترجمته. وهي الاستراتيجية التي تمنعني من تطويع النص الأصلي في خدمة السياق اللغوي والثقافي العربي، بل تدعمني في رغبتي في الحفاظ على ما قد يبدو في المقالات من غرابة، لأن المقالات التي يحتويها الكتاب هنا هي مقالات جاءت غير مسايرة لسياقها الثقافي بل واللغوي في أحيان كثيرة، طارحة فكرا ومنهجا مختلفا عما هو سائد في مدارس الفكر ومناهج البحث الغربية، وبالتالي فمن المنطقي أن تحمل غرابة في صيغتها العربية. ومن ناحية أخرى، ونظرا للطبيعة الأكاديمية للمقالات المترجمة هنا، والتي تتضمن في أصولها هوامش شارحة، فقد اكتفيت بكتابة مقدمة مطولة شارحة للسياق بدلا من إضافة هوامش المترجمة فتختلط بهوامش المؤلفة، مما قد يؤدي إلى إحداث بعض اللبس لدى القارئات والقراء. فحافظت بقدر المستطاع على صوت المؤلفة في كل مقالة رغم وعيي بدوري كوسيط في عملية الترجمة. وإلى جانب التواجد المباشر في هذه المقدمة، حرصت أيضا على التواجد غير المباشر في الترجمة بتأكيد كونها نصا مترجما لا نصا مؤلفا فأعقبت بعض المصطلحات الواردة باللغة العربية بصيغها الأصلية في لغتها الإنجليزية، بين قوسين، كإشارة ضمنية في متن الترجمة إلى وجودي كمترجمة لتلك المصطلحات.

ثانيا: ترجمة المصطلح

إن ترجمة النص النسوي تتضمن ترجمة منهج فكري وخطاب ثقافي آخذ في التطور منذ نهايات القرن التاسع عشر، وفرع معرفي له نظرياته المتنوعة والمتنامية منذ سبعينيات القرن العشرين، وبالتالي لا تقتصر الترجمة على نقل نص من لغة إلى أخرى، بل تمتد لتشمل نقل الفكر النسوي ضمن سياقات عديدة. فلا تقتصر الترجمة هنا على معناها المباشر أي النقل بين لغتين أو ثقافتين فحسب، بل تتجاوز كذلك الخطابات السائدة. فأجد نفسي كمترجمة مضطرة في كثير من الأحيان إلى تقديم ترجمة شارحة للمفاهيم وتعريف المصطلحات، بل وربما صياغة بعض المصطلحات المقابلة للمصطلح أو المفهوم المستخدم في اللغة الأصلية لغيابها في اللغة المستهدفة. وتتطلب ترجمة المصطلح النسوي إلماما تاما بتاريخه وتطوره ودلالاته ومعناه، ولا يقتصر الأمر على البحث عن المقابل الدقيق (equivalence) في اللغة العربية، بل كثيرا ما لا نجد للمصطلح النسوي مقابلا مناسبا في اللغة العربية، إما لأن المقابل يحمل تاريخا ودلالات مغايرة، أو لأن المصطلح نفسه تم اشتقاقه وصياغته في اللغة الأجنبية في إطار النظرية النسوية وبالتالي لا يوجد له مقابل دقيق في اللغة العربية.

وبالتالي تتطلب الترجمة النسوية الرجوع إلى قواميس المصطلحات في لغاتها الأصلية (فاعتمدت في ترجمة كثير من المصطلحات على "قاموس النظرية النسوية" لصاحبته ماجي همّ على سبيل المثال)، بالإضافة إلى الرجوع إلى القواميس ما بين اللغتين العربية والإنجليزية. وقد حرصت على وضع المصطلحات في أصلها الأجنبي بين قوسين عند استخدامها أول مرة في كل مقالة لتأكيد انتماء المصطلح إلى لغة أخرى وإشراك القارئات والقراء معي في ترجمته.

وفيما يتعلق بترجمة المصطلح وإشكالياتها سأتوقف عند مثال واحد أساس ي في الدراسات النسوية والجندرية، ما زال يثير إشكاليات عند ترجمته منذ تكرار استخدامه في تسعينيات القرن العشرين. وأقصد هنا مصطلح "جندر" (gender) على تعدد ترجماته إلى اللغة العربية. وتتطلب ترجمة هذا المصطلح البدء من معرفة نشأته في الغرب، إذ بدأ استخدامه في ثمانينيات القرن العشرين كتطور للنظرية النسوية يتناول التشكيل الثقافي للأنوثة و الذكورة، وفي سبيل ذلك تم حينها استقدام مصطلح لغوي يشير إلى "جنس/نوع" المفردات من حيث التأنيث والتذكير، على اعتبار أن الأنوثة والذكورة هما صيغتان ثقافيتان مثلما يكون التأنيث والتذكير صيغتين لغويتين. وقد كان هذا هو المنطق الذي استعانت به هيئة تحرير مجلة ألف عند صياغتهم لمصطلح "الجنوسة" على سبيل ترجمة "جندر" باشتقاقه من الجذر الثلاثي "ج ن س" وقياسا على وزن "الفعولة" ("أ ن ث": الأنوثة، "ذ ك ر": الذكورة، "ج ن س": الجنوسة). وكانت سامية محرز هي أول من فتح النقاش حول ترجمة مصطلح "جندر" موضحة مسار تحرير المصطلح من التأثير الكولونيالي من ناحية واللجوء إلى حلول تنتج مصطلحا هجينا، ممثلا في رأيها في مصطلح "الجنوسة" الذي يجمع بين جذر مشترك بين اللغة العربية واللغة اليونانية القديمة من ناحية وبين وزن للمصطلح مشتق من قواعد الصرف في اللغة العربية.

ولكن لم يتمتع لفظ "الجنوسة" بالقبول العام ولم يتحقق له الانتشار رغم طرحه في سياق الدراسات الثقافية حيث كانت الصيغة المستخدمة هي ترجمة شارحة مفصلة، وهي صيغة "التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنس" التي استخدمتها أكاديميات نسويات في كتاباتهن. وقد جاء طرح مصطلح "الجنوسة" في فترة كان المصطلح الأكثر شيوعا حينها مصطلح "النوع الاجتماعي" الذي يتخذ صيغة ترجمة شارحة موجزة، لتصبح هي الترجمة السائدة للمصطلح في الأدبيات التنموية والعلوم الاجتماعية، مع اختصارها بمرور الوقت في صيغة مختصرة وهي مصطلح "النوع"، وهو المصطلح الأكثر شيوعا حاليا في العلوم الاجتماعية. ومن جانب آخر تزايد استخدام "الجندر" كترجمة للمصطلح الأجنبي، وخاصة مع ما تتمتع به كلمة الجندر من مرونة في الاشتقاق والتصريف نظرا لإمكانية التعامل معها باعتبارها كلمة رباعية "ج ن د ر". وأنا شخصيا أميل إلى استخدام مصطلح "الجندر" لأن مصطلح "النوع" في مجال تخصصي العام (النظرية الأدبية) يشير أولا وقبل أي ش يء إلى "النوع الأدبي" مما قد يسبب خلطا ولبسا في المعنى عند استخدامه للتعبير عن مفهومين مختلفين تماما، وخاصة عند الجمع بينهما لدراسة العلاقة بين النوع الأدبي والجندر (علاقة النوع بالنوع؟!) كما أنني لا أجد غضاضة في استخدام مصطلح أججمي تبلور في ظل النظرية النسوية، مثلما لا نجد غضاضة في استخدام مصطلحات أججمية أخرى كمصطلح الديمقراطية أو الليبرالية أو الراديكالية والتي تبلورت في ظل النظرية السياسية، وإن كانت قد صيغت كمصطلحات حديثة معبرة عن قضايا إنسانية قديمة ومستمرة.

ثالثا: تأنيث اللغة

إن تأنيث اللغة يعني لي التأكيد على التواجد النسائي في النص وعدم إدراجه ضمنيا تحت صيغ لغوية مذكرة يفترض فيها الإشارة إلى الجنسين مع هيمنة صيغ التذكير واستخدام جمع التذكير، وتحديدا صيغ جمع المذكر السالم للإشارة إلى جمع يتضمن أفرادا من الجنسين حتى عند وجود أغلبية من النساء وفرد من الرجال. وهو ما ينطبق كذلك في قواعد اللغة العربية على صيغ الأفعال والأسماء والضمائر والصفات وغيرها من عناصر اللغة التي يغلب فيها التذكير على التأنيث وتهيمن صيغ التذكير في حالات الجمع. وفيما يتعلق تحديدا بالترجمة من الإنجليزية إلى العربية فمن المعروف في اللغة الإنجليزية أن الأسماء لا تأتي إلا على شاكلة واحدة، وهو ما لا ينطبق على اللغة العربية التي تكون الأسماء فيها إما مؤنثة أو مذكرة. وبالتالي فإن كلمة مثل "translator" باللغة الإنجليزية لا تشير إلى جنس بعينه وإنما هي اسم محايد ينطبق على المترجمة أو المترجم. وقد لاحظت في فصول الكتاب أن بعض المؤلفات يشرن تحديدا إلى نساء وأحيانا يوجهن خطابهن إلى النساء، وهو ما لا يرد في صيغة الاسم وحدها وإنما يتضح عند استخدام صيغة ضمير الغائبة. ومن هنا حرصت على ترجمة الاسم إلى صيغة المؤنث في اللغة العربية حين يكون من الواضح أن الاسم يشير إلى المؤنث، وفيما عدا ذلك اخترت أن أستخدم صيغة تجمع بين المؤنث والمذكر: المترجمة أو المترجم، الباحثة أو الباحث كترجمة لصيغة المفرد researcher أو translator. أما في صيغة الجمع، فقد رأيت تأكيد التواجد النسائي وعدم الاكتفاء بصيغة جمع المذكر السالم كمؤشر على جمع من الإناث والذكور، ومن هنا استخدمت صيغة "المترجمات والمترجمين" و"الباحثات والباحثين" كترجمة لصيغة الجمع المحايدة في اللغة الإنجليزية: researchers أو translators. وهو تأنيث للغة طبقته كمنهج في ترجمة الأسماء عبر صفحات الكتاب تأكيدا على تواجد النساء كطرف أساسي تتحدث عنه المؤلفات وتخاطبه المقالات، وبالتالي لا يجوز في رأيي تجاهل النساء أو تغييبهن أو تهميشهن لغويا باستخدام صيغ مذكرة تحتويهن ضمنيا وإن كانت تخفيهن لغويا مثل جمع المذكر السالم على سبيل المثال.

رابعا: الصوت النسوي

حين أتحدث عن الصوت النسوي فإنني أشير هنا إلى ثلاثة مستويات للصوت النسوي: الصوت النسوي في النص الأصلي، والصوت النسوي في النص المترجم (وهي نقاط تم تناولها بشكل غير مباشر في النقاط السابقة أعلاه)، وصوت المؤلفة مع صوت المترجمة، وهو ما سأركز عليه في حديثي هنا. فمسألة إعلاء الصوت النسوي هي مسألة حاضرة ضمنيا في كافة النقاط السابقة، ولا أقصد بها تأكيد تفوق الصوت النسوي على غيره، وإنما إعلاءه بمعنى إتاحة الفرصة لسماعه، منطلقة في ذلك من قناعة بخفوت الصوت النسوي إن لم يكن إسكاته في إطار قيم الثقافة والنقد والإبداع السائدة. وهكذا حرصت على الحفاظ على الصوت النسوي الكامن في النص الأصلي، بل والتأكيد عليه في الصياغة العربية. ولكني مع ذلك لا أنفي أن صوتي كمحررة ومترجمة للكتاب يتضح هو الآخر ربما بشكل غير مباشر من خلال أولوية اختياري للمقالات، إذ حرصت على إدراج الدراسات التي كتبتها ناقدات نسويات، وعلى مدار فترات مختلفة، وبما يرسخ الصوت النسوي في النقد والإبداع لا باعتباره "موسما" أو "حالة مؤقتة" أو مجرد "صيحة" في النقد الأدبي، وإنما باعتباره تعبيرا عن فكر متواصل ومنهج متطور وصوت مسموع. كذلك كان لتسليطي الضوء على إرهاصات النقد الأدبي النسوي في مصر منذ بدايات القرن العشرين ما يؤكد أن الصوت النسوي موجود منذ عقود ولكنه ظل خافتا، وعلى النسويات إعلاؤه وتسليط الضوء على صاحباته.

ولكن ترجمة النص النسوي تحمل لي شخصيا، باعتباري نسوية، إشكالية ترسيم الحدود بين صوتي النسوي وصوت المؤلفة في النص. وقد توقفت مرارا أمام اختيارات التزمت بها وقرارات اتخذتها واستراتيجيات اتبعتها كي لا يعلو صوتي على صوت النص. وقد كان من ضمن تلك القرارات هو عدم الاستعانة بهوامش تحمل تعليقا أو تعقيبا أو توضيحا مني مرفقة بالمقالات (سواء أسفل صفحاتها أو في آخرها)، وإنما قررت أن أفرد لصوتي مساحة مشروعة في هذه المقدمة، فلا يتداخل صوتي مباشرة مع صوت المؤلفة على صفحات مقالتها، وإنما في مقدمة الكتاب. فلم أكتف بتواجد صوتي من خلال اختيار موضوع الكتاب وما يحتويه من مقالات بل والقيام على ترجمتها فحسب، وإنما حرصت كذلك على إعلاء هذا الصوت في مقدمة الكتاب حيث أفردت مساحة أقوم من خلالها بتسليط الضوء على السياق التاريخي والثقافي والأدبي الذي أدى إلى نشأة وتطور النقد الأدبي النسوي كمدرسة نقدية غربية، وسعيت إلى الإشارة إلى نماذج للنقد النسوي في مصر بحيث لا يبدو الكتاب وكأنه مجرد ساحة لنقل ما أنتجه النقد النسوي الغربي، بل محاولة خلق حوار ضمني بين التجربة الغربية والتجربة المصرية في الإبداع النسائي والنقد النسوي، ومن هنا رأيت ألا أكتفي بنقل أصوات الناقدات النسويات الغربيات فقمت بمنح ناقدات مصريات صوتا وحيزا للتعبير عن مناهجهن النقدية، ليفسح الكتاب بالتالي المجال أمام تعددية الرؤى وتنوعها، ويشير إلى أصوات خافتة في النقد الأدبي العربي. كذلك حاولت أن يحمل هذا الكتاب رسالة سياسية إلى جنب قيمته المعرفية، وأقصد بالرسالة السياسية الجمع بين النظرية والتطبيق، وبين السياق الأكاديمي والحراك المجتمعي، وهي سمة أساسية في الفكر النسوي الذي يستند إلى مقولة "التجربة الشخصية هي تجربة سياسية"، التي إذا وضعناها في سياق هذا الكتاب أضفينا عليها بعدا جديدا، بمعنى أن الكتابة والإبداع والنقد (وبالتالي الترجمة) ليست مجرد ممارسة فردية ذاتية وإنما هي فعل سياسي – أي نشاط يهدف إلى إحداث تغيير مجتمعي. وهو ما أتمنى أن يكون قد حدث في صفحات هذا الكتاب من خلال تجاور وتحاور الأصوات النسوية التي تجمع ما بين الرؤى الفردية والقضية المشتركة.

وختاما: الترجمة كفعل سياسي

إن ترجمة النص النسوي في رأيي هي في حد ذاتها فعل سياسي. فترجمة الفكر النسوي الغربي إلى اللغة العربية تتضمن عملية تمكين معرفي إذ تتيح ترجمة نماذج من النقد الأدبي النسوي الغربي للباحثات والباحثين العرب التعرف على ملامح من الفكر والتنظير والبحث والتطبيق في العالم، بما يحقق لنا، نساء ورجالا، قدرا من التمكين المعرفي والقدرة على المقارنة والاختيار والنقد والخلق والإبداع. كذلك فإن ترجمة النص النسوي هي فعل سياسي لما توفره من بناء معرفي نسوي باللغة العربية يساهم في نشر مزيد من الوعي وامتلاك أدوات التحليل والتعبير والتعرف على أنماط المقاومة والفعل نحو التغيير. وقد اتضح لي من خلال ملاحظتي لما يتم من جهود لترجمة نصوص نسوية إلى اللغة العربية مدى ما تساهم فيه تلك الأعمال المترجمة من نشاط فكري يسهم في بلورة خطاب نسوي مصري وعربي. فإذا كانت مدارس النقد الأدبي العربية لا تتضمن مدرسة للنقد الأدبي النسوي العربي، إلا أن التعرف على ما قامت به النسويات من جهد لتأسيس مدرسة للنقد الأدبي النسوي ، بما فيها من تعددية وتنوع، يدعونا إلى الالتفات إلى تاريخنا النقدي والتنقيب فيه عن كاتبات وناقدات خفتت أصواتهن فسقطن بمرور الزمن من تاريخ الأدب والنقد. وهكذا لا تكون الترجمة هنا بهدف المحاكاة وإنما تصبح دافعا لمزيد من الفهم والنقد والمواجهة والاقتباس والرفض، وكافة أشكال التفاعل البناء. فليس الهدف من ذلك تحويل الأنظار إلى الغرب بقدر اكتساب أدوات البحث التي تعيننا على البحث في تاريخنا واستخراج النساء منه وصياغة المصطلحات المعبرة عن واقع قائم غير مسمى.

وإنني إذ أرى في ترجمة النص النسوي فعلا سياسيا، فإنما يعود ذلك إلى ما تتضمنه ترجمة هذا الفرع المعرفي تحديدا من زيادة في الوعي بقضايا النساء والعمل على إحداث تغيير اجتماعي أساسه العدالة على كافة المستويات، في تقاطعاتها ونقاط التلاقي بين النوع والطبقة والأصل وغيرها من عناصر التمييز بين البشر. وبالتالي فإن ترجمة نص نسوي وإتاحته للقارئات والقراء هي في حد ذاتها ليست مجرد نشاط لغوي ينقل النص من لغة إلى لغة ومن ثقافة إلى ثقافة ومن جمهور إلى جمهور، وإنما هي نشاط سياسي يتوجه إلى قارئاته وقرائه بهدف رفع الوعي النسوي وتمكين النساء معرفيا وبلورة رؤية بديلة لمجتمع تسوده العدالة الاجتماعية على كافة المستويات.

وباعتباري مترجمة نسوية لا يقتصر همي على ترجمة نص ترجمة دقيقة وأمينة، وإنما ترجمة نص نسوي ترجمة نسوية، وعلى المدى الأبعد فإنني أطمح من خلال ترجمة هذا الكتاب والتعريف باتجاهات النقد الأدبي النسوي إلى التحريض على بلورة نقد أدبي نسوي عربي، بما فيه من إعلاء لقيمة وأصوات النساء، لا على مستوى مناهج البحث الأكاديمية فحسب، وإنما على الساحة الإبداعية، بل وفي الممارسات النقدية اليومية.