وثيقة:أشكال أخرى للعدالة: مناهضة العنف الجنسي في المجتمع المدني

من ويكي الجندر
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
Emojione 1F4DC.svg

محتوى متن هذه الصفحة مجلوب من مصدر خارجي و محفوظ طبق الأصل لغرض الأرشيف، و ربما يكون قد أجري عليه تنسيق و/أو ضُمِّنَت فيه روابط وِب، بما لا يغيّر مضمونه، و ذلك وفق سياسة التحرير.

تفاصيل بيانات المَصْدَر و التأليف مبيّنة فيما يلي.

Mada Masr Logo.png
مقالة رأي
تأليف دينا مكرم عبيد
تحرير مدى مصر
المصدر مدى مصر
اللغة العربية
تاريخ النشر 2018-03-31
مسار الاسترجاع https://www.madamasr.com/ar/2018/03/31/opinion/مجتمع/أشكال-أخرى-للعدالة-مناهضة-العنف-الجنس/
تاريخ الاسترجاع 2018-04-01

ترجمة عبد الرحيم يوسف
لغة الأصل الإنجليزية
العنوان الأصلي Grappling with forms of justice: Combating sexual violence in civil society
تاريخ نشر الأصل 2018-03-08



قد توجد وثائق أخرى مصدرها مدى مصر



كوني بيرك؛ إحدى المشاركات في تأسيس شبكة « نورث ويست للناجيات من الاعتداء الجنسي»، وهي شبكة ذات خبرة ثرية في التوسط في قضايا العنف الجنسي في منظمات المجتمع المدني بالولايات المتحدة، تقول إن الشعار النسوي: «الشخصي دائمًا سياسي» يبقى صحيحًا دائمًا، ولكن مع إضافة أنه لا بد لنا من الاعتراف بأن الشخصي غالبًا ما يكون أكثر فوضوية من أن تفسره أفكارنا الدوجمائية.

تأملات بيرك حول تحديات تفسير الشخصي باستخدام اللغة السياسية تجد صدى لها في القضية التي أثيرت خلال الشهور الأخيرة داخل دوائر اليسار والمجتمع المدني بمصر، فيما يتعلق بالمسؤولية المجتمعية والسعي للعدالة في قضايا العنف الجنسي وحقوق المرأة و«مجتمع الميم».

ظهرت الأزمة إلى النور علنًا بعد تداول رسالة بريد إلكتروني لعضوة في المجتمع المدني، اتهمت عضوين في حزب «العيش والحرية» (تحت التأسيس) بالاغتصاب و التحرش الجنسي على التوالي.

ردود الأفعال على تلك الرسالة، سواء الرسمية من الحزب، أو الشخصية من أعضاء مختلفين في المجتمع المدني، أثارت موجة من الاستياء وسط حوارات كانت مفيدة في بعض الأحيان، لكن مؤلمة في أغلبها – عن مواضيع جوهرية تحيط بالاغتصاب والتحرش الجنسي والقبول والمسؤولية المجتمعية في السعي وراء العدالة للناجيات.

هذه المناقشات المكثفة، التي تلت ذلك لأسابيع، ألقت الضوء إلى حد كبير على افتقار المجتمع المدني في مصر إلى مدخل لآليات اجتماعية من أجل السعي للعدالة في قضايا العنف الجنسي، خارج نظام العدالة الجنائية.

أثارت قضية حزب العيش والحرية تحديات جادة فيما يتعلق بالممارسات والتصورات المحلية المتعلقة بالعدالة المجتمعية. وفي القلب من هذه التحديات تقبع تساؤلات بلا إجابة: من أجل مَن ينبغي البحث عن العدالة؟ وكيف يمكن تفسير التفاوتات المجتمعية الأوسع واختلالات توازن القوى أثناء التعامل مع آليات العدالة المختلفة؟

صاغت هذه التساؤلات مساحة لحسابات أوسع حول عيوب منظومة العدالة الجنائية في قضايا العنف الجنسي، وأثارت مزيدًا من الأسئلة حول ماهية أشكال العدالة الأخرى التي يمكن اللجوء إليها في هذه الظروف.

في هذا المقال، أطرح خبرات بعض منظمات المجتمع المدني في سعيها لايجاد وسائل بديلة للعدالة، وأبدأ بتوضيح الطرق التي خذل بها نظام العدالة الجنائية الناجيات من العنف الجنسي، ثم أستعرض المسارات المختلفة للعدالة التي لجأت إليها منظمات المجتمع المدني في أماكن مختلفة من أنحاء العالم، ملقية الضوء على كل من التحديات والإمكانات التي تتيحها هذه التجارب.

وبدلًا من معالجة الموضوع من ثنائية نظام عدالة جنائية فاشل في قضايا العنف الجنسي ونظام عدالة مجتمعية ناجح، فإني أسلط الضوء على التحديات في كل من النظامين، والمواضيع التي يتوجب على كل منهما التعرض لها من أجل الوصول إلى نتائج مُرضية.

بينما أطرح التجارب العالمية لمناهضة العنف الجنسي ومسارات العدالة المتاحة، سأعود إلى قضية «العيش والحرية» لأوضح كيف أن محاولة تفعيل العدالة المجتمعية على أرض الواقع قد غدت محفوفة بالالتباسات والشكوك والكثير من المحاولات الفاشلة لتفسير ما يعنيه «المجتمعي» بالفعل، في إطار فهم أنظمة العدالة المجتمعية.

بعد أشهر قليلة من تداول الرسالة الإلكترونية، بدأ الحزب تحقيقًا داخليًا في الاتهامات المقدمة ضد عضويه. فشكَّل لجنة مؤلفة من ثلاث شخصيات من المجتمع المدني، من غير أعضاء الحزب، واختيروا بناءً على نزاهتهم ومهنيتهم. وكانت مهمة اللجنة هي التحقيق في الاتهامات عن طريق التواصل مع الأطراف المختلفة المتورطة وجمع الأدلة وإعلان حكم نهائي.

في ظل تاريخ طويل من إسكات النساء وأعضاء مجتمع الميم الذين تحدثوا في سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة، كاشفين عن حالات عنف جنسي، فقد كان قرار التحقيق في القضية ومساءلة أعضاء الحزب خطوة إلى الأمام بالتأكيد. وكانت روح أروى صالح؛ الناشطة في الحركة الطلابية في سبعينيات القرن الماضي، حاضرة، وكثيرًا ما ذُكر اسمها في المناقشات لتسليط الضوء على وطأة تلك الاتهامات وطبيعتها الهيكلية.

كانت أروى قد أصدرت مذكرات بعنوان «المبتسرون» عام 1997، وهو العام نفسه الذي انتحرت فيه، وتحكي فيه ضمن ما تحكي عن الظلم التي تتعرض له النساء في مجتمعات النشطاء، على يد رفاقهن الذكور. وأصبحت سرديتها شهادة خالدة حول العمق الذي قد تصل إليه هذه الموضوعات.

لكن الآمال المبدئية في أن يجد المجتمع المدني طُرقًا للتعامل مع القضايا الجوهرية للعنف الجنسي تحطمت سريعًا عندما أصدر الحزب بيانه الرسمي بعد انتهاء تحقيق اللجنة.

أثار البيان قدرًا هائلًا من الغضب لدى منتقديه الذين وجدوا لغته ومحتواه ناقصين، إن لم يكونا معيبين على نحو بالغ.

وصف التقرير فعل الاغتصاب بأنه «فعل مشين»، والتحرش الجنسي بوصفه تداخلًا بين الحياة «العامة والخاصة». كما ذكر البيان أن العضو المتهم بالاغتصاب قد استقال بالفعل من الحزب، وهكذا رأى الحزب أنه لا يمكن اتخاذ أي إجراءات أخرى ضده.

كما ركَّز البيان بشكل أكبر بكثير على الحزب ونزاهته، بدلًا من معالجة صعوبة مباشرة العدالة المجتمعية وإيجاد وسائل لدعم النساء ومجتمع الميم في الاستمرار في الكشف عن الانتهاكات التي يتعرضون لها.

بموافقة السيدة التي نشرت في البداية الرسالة الإلكترونية التي وثقت المزاعم، أصدرت مجموعة من أعضاء المجتمع بيانًا يعبرون فيه عن غضبهم من رد فعل الحزب واعتراضاتهم على مسار تحقيقه.

وبعد بضعة أيام، وردًا على الغضب الذي انتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، قدّم وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية، والمتهم بالتحرش الجنسي في الرسالة الإلكترونية، استقالته، في محاولة لتحمل المسؤولية عن كل من أخطائه الشخصية، وأخطاء الحزب في التعامل مع هذه القضية.

بعدها بفترة وجيزة، أتيح للجمهور ملخص لتقرير لجنة التحقيق من أجل مراجعة وتقييم العملية.

كان قرار التحقيق في الاتهامات، والاستقالة اللاحقة لزعيم «العيش والحرية»، في محاولة لتحمل المسؤولية عن رد فعل الحزب، خطوتين محترمتين نحو التعامل مع الأسئلة الأكبر المتعلقة بالعنف الجنسي في المجتمع المدني.

ورغم الإحباط المفهوم والغضب من العملية، إلا أنه ينبغي النظر إلى التحقيق والاستقالة بوصفهما قد يكونان علامة على عهد جديد، سواء محليًا أو عالميًا، لن يُسكت فيه بعد الآن عن الاعتداءات الجنسية، وأن النضالات من أجل المساواة الجندرية قد أدت إلى بعض النتائج المثمرة.

لكن عدم الارتياح العام الذي أعقب استقالة زعيم الحزب عكس بدوره تحديات السعي من أجل عدالة مجتمعية خارج منظومة العدالة الجنائية.

بعد شعور بالإرهاق قرب نهاية العملية، بقى الكثيرون مع مزيد من الأسئلة: هل تتحقق العدالة إذا لم يُضم مقدمو الشكوى لإجراءات تحقيق العدالة؟ هل يمكن الدفاع عن المجتمع إذا كان نهج العدالة المجتمعية يؤدي إلى خوف الكثير من الكلام و الانسحاب تخوفًا من الاتهام بالتواطؤ من قِبل أي من جانبي النزاع؟ هل نظم العدالة البديلة هي بالفعل بديلة، إذا كان الأمر ينتهي بالمناقشات العامة الساخنة التي تصيب أفرادًا كثيرين بشعور الصدمة وإعادة اختبار الأحداث المؤلمة مرة أخرى؟ ما هي أشكال المسؤولية التي ينبغي على المتهمين تحملها؟ هل الاستقالات كافية؟ ما هي الآليات الأخرى – غير لجان التحقيق – التي يمكن السعي خلفها؟ مَن يدفع ثمن هذه الإجراءات إذا أخفقت؟ وأخيرًا سؤال: هل سيمكننا أبدًا أن نغازل بحرية مرة أخرى؟ تلك الأسئلة، بين أسئلة أخرى أكثر بكثير مثارة، تُذكرنا بتعليقات بيرك حول إلى أي حد قد يكون الشخصي فوضويًا عندما يتحول إلى سياسي، وتحديات التعامل معه.

لحسن الحظ، فقد اشتبك أعضاء المجتمعات المدنية في منظمات متعددة في أنحاء العالم مع أسئلة شبيهة لعدة عقود. وقراءتي لخبراتهم في هذا المقال تتركز حول الموضوع الرئيسي الذي تناولوه حول أشكال العدالة المختلفة التي طبَّقوها والآليات المرتبطة بها.

ألقي كذلك الضوء على كيف تؤدي محاولات استخدام نظام العدالة الجنائية، أو محاكاة إجراءاته في مبادرات مجتمعية، لظهور عيوب كثيرة في مسار العدالة المجتمعية.

ورغم أن نُظم العدالة الأخرى البديلة للنظام الجنائي لا تقدم حلولًا سحرية للمشاكل الهيكلية في قضايا العنف الجنسي، وأننا سنكون حالمين لو افترضنا أنها قد تفعل ذلك، إلا أنها تلقي الضوء على مواضيع جوهرية بحاجة إلى العمل عليها إذا كان من المقدر لنا أبدًا أن نرى مكاسب ملموسة في التعامل مع مسائل العدالة الجنسية.

هناك احتراز أخير لا بد من توضيحه، وهو خيار التركيز على خبرات النساء في تحقيق العدالة في قضايا العنف الجنسي.

هذا ليس إنكارًا للانتهاكات التي يعاني منها كل من الرجال والأفراد مغايري النوع الاجتماعي. لكن اختلالات موازين القوى العالمية في أغلب المجتمعات الأبوية بين الرجال في جانب، والنساء والأفراد مغايرى النوع في جانب آخر، قد أثّرت بشكل واسع على معدلات العنف الجنسي وتوثيقها، ما يجعل من الأسهل البناء على خبرات النساء الناجيات لغرض هذا المقال.

لا يزال الأفراد مغايرو النوع يعانون من معدلات رهيبة من الانتهاك الجنسي، تساوي، إن لم تفق، ما تتعرض له النساء، لكن هذه الانتهاكات ومحاولات مكافحتها أقل توثيقًا في كثير من الأحيان.

هل خذل نظام العدالة الجنائية الناجيات من العنف الجنسي؟

في مقدمتهم للنص الرائد «عدالة الاغتصاب: ما وراء القانون الجنائي» (Rape Justice: Beyond the Criminal Law) (2015) يذكر نيكولا هنري، وأناستاسيا بوِيل، وآشر فلين أن الإحصائيات العالمية تُبيّن أن 5 إلى 10% فقط من كل حالات الاغتصاب تنتج عنها إدانة تحت القانون الجنائي.

هذه حقيقة صادمة، خصوصًا في ضوء البيانات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، والتي تشير إلى أن امرأة من بين كل أربع نساء تتعرض لشكل ما من العنف الجنسي من شخص قريب منها.

أجبرت هذه الإحصائيات التي توثق مقدار تفشِّي العنف الجنسي، مقارنة بندرة حدوث الإدانة في قضايا الاغتصاب، الباحثين على التساؤل عمَّا يكمن خلف هذه الأرقام.

يجادل باحثون، مثل أستاذة الطب النفسي والكاتبة النسوية البارزة جوديث هيرمان، أن إجراءات العدالة الجنائية الرسمية كثيرًا ما تجبر الناجيات من الاغتصاب على معاناة «اغتصاب ثانٍ».

ففي الوقت الذي تحتاج فيه الناجيات من الاغتصاب إلى مَن يسمعهن ويصدقهن، فإنه غالبًا ما يجري التشكيك في روايتهن، وعندما يكن في حاجة إلى الشعور بالسيطرة على حياتهن وروايتهن، يجري تحويلهن إلى مجرد شاهدات على الأحداث، ليتفاقم بذلك إحساسهن الأوليّ بعدم السماع لرغباتهن ولسلب ارادتهن.

لماذا تلجأ الضحايا/الناجيات من العنف الجنسي إلى نظام العدالة الجنائية إذن، إذا كان على الواحدة أن تعاني كل هذا؟

يلجأ الناس غالبًا إلى نظام العدالة الجنائية لأنه، كما قد أشار عالم الاجتماع إيميل دوركهايم، انعكاس لقيم ومعايير المجتمع الشائعة. هكذا تنقل المحاكم رسالة فحواها أن انتهاكات هذه الأخلاقيات والقيم لن يجري التسامح معها، ولا ينبغي تكرارها في المستقبل.

لكن لتحقيق رسالة كهذه، كما يفسر عالم الاجتماع الجنائي البارز وأستاذ القانون ديفيد جارلاند، تعتمد المحاكم على تمثيل طقسي للقواعد والإجراءات يشكل تعليمًا عاطفيًا ينتج ويعيد إنتاج حساسيات معينة وطُرقًا في التفكير.

ومن ثم يجادل هنري وبُوِيل وفلين أن هذه الطقوس، التي تجعل المحاكم شديدة الجاذبية، تجبر أيضًا الناجيات من العنف الجنسي على معايشة صدمتهن من جديد، دون تمكينهن من استرداد إحساسهن بالسيطرة على سردهن لخبراتهن. في المقابل تُجبَر الناجية في الأغلب على تحمل عبء تحدي مصداقيتها.

لكن نظام العدالة الجنائية به عوار في قضايا العنف الجنسي، لأسباب أخرى تتعلق بمرتكب هذه الأفعال. فرغم أنه في المخيلة العامة، مثلًا، غالبًا ما يُرتكَب فعل الاغتصاب على يد الأغراب، ولكن في الحقيقة، فمعظم حوادث العنف الجنسي تجري على يد أشخاص قريبين من الناجيات، وتكشف منظمة الصحة العالمية عن أن ثلاثًا من كل أربع حالات يرتكبها أناس قريبون من الناجيات.

هذا ما يجعل المكاشفة بحالات الاغتصاب تحديدًا، والعنف الجنسي بشكل أكثر عمومية، أمرًا أكثر تحديًا، لأن الواحدة تخاطر بفقد كل الأمان العاطفي والمادي في حالة اتهام المقربين إليها.

ليس هذا فقط، بل إنه في ظل الوصمة الاجتماعية المحيطة بالتحدث عن الجنس علانية، تتحمل الناجية غالبًا عبء الخوف من الحكم العام على خرق هذه القواعد الاجتماعية. إلى جانب ادعاءات الاغتصاب، فإن مجرد حديث المرأة عن الجنس غالبًا ما يتسبب لها في معاناة الخزي والشعور بالذنب والقلق.

و هكذا فالحقيقة الصادمة هي أن إصلاحات القوانين المتعلقة بالعنف الجنسي لم تؤدِ إلى زيادة عدد القضايا المرفوعة، ولا عدد أحكام الإدانة الصادرة، كما وثقت كاثلين دالي، وهي باحثة تركز على قضايا الاغتصاب، في كتاب «عدالة الاغتصاب».

هذه نتيجة مرعبة تُبيِّن كم من العمل يجب أن يُجرى لكي تتمكن الناجيات من الاغتصاب من الحصول على مظهر من مظاهر العدالة. ناهيك عن أن إصلاحات قوانين الاغتصاب عادة ما تكون في سياقات «السلام»، التي تُعتبر الدول فيها قادرة على أداء وظائفها.

أما في سياقات ما بعد الصراعات، مثل الإبادة الجماعية في رواندا، أو التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، فقد جرى توثيق حالات عنف جنسي بمعدلات رهيبة، حتى أن محاكم العدالة الجنائية لم تستطع التحقيق فيها جميعًا. مواقف كهذه، لم تتمكن فيها كيانات الدولة من التعامل مع درجة العنف، شهدت لجوء أعضاء المجتمع إلى أشكال أخرى من العدالة، مثل العدالة التصالحية، ليبدأوا في إحلال المصالحة في مجتمعاتهم، حيثما فشل نظام العدالة الجنائية.

نظم عدالة بديلة أم تفكير مفرط التفاؤل؟

فيما يتعلق بالعنف الجنسي، اتخذت الأشكال البديلة للعدالة مجموعة مختلفة من الصيغ عبر العالم. بعضها تُعتبر انتهاكًا للقانون الجنائي: مثلًا عندما تقتل النساء المعتدين عليهن، أو عندما يقمن بالرد على العنف عن طريق تشكيل مجموعات تهاجم المعتدين من الأهل، مثلما هو الحال مع حركة الساري الوردي، جولابي جانج، في الهند، حيث تهاجم مجموعات من النساء حاملات العصي ومرتديات الساري الوردي ضاربي الزوجات للرد على ظاهرة العنف المنزلي واسعة الانتشار.

ورغم أن أفعالهن يدينها القانون، إلا أنهن أحيانًا ما يحظين بتسامح وقبول المجتمع.

لكن إذا كان للمرء تبسيط المقاربات الأخرى البارزة للعدالة البديلة، تلك التي لا تتعارض مع نظام العدالة الجنائية ولا تكسر قوانينه، فيمكن تقسيمها تقريبًا إلى ثلاثة تصنيفات: «العدالة التصالحية»، «العدالة التحويلية» (التي كثيرًا ما يشار إليها أيضًا بـ«المساءلة المجتمعية»)، ومقاربة ثالثة تُدعى «المجتمعات المسؤولة».

هذه النُظم الثلاثة للعدالة قد تطورت عبر تفكير مطول في عيوب نظام العدالة الجنائية، ولاحقًا في عيوب نظام العدالة التصالحية.

العدالة التصالحية: ارتبط هذا المصطلح بإجراءات الحقيقة والمصالحة فيما بعد الصراعات، هي شكل من أشكال العدالة يحاول أن يشمل كل أعضاء المجتمع (الجناة، الضحايا/الناجيات، الشهود، إلخ) في تحديد الأشكال الفعالة لردع الانتهاكات المستقبلية. الهدف هو تصالح المجتمع واستعادة درجة ما من الوظائفية. وقد استُخدمت العدالة التصالحية من أيرلندا الشمالية إلى جنوب أفريقيا، ليس فقط فيما يتعلق بالعنف الجنسي، لكن لكل أنواع العنف المرتكبة في المجتمعات المختلفة.

المقاربة الثانية، العدالة التحويلية، أو ما يُشار إليها غالبًا بـ «المسؤولية المجتمعية»، هي مقاربة ظهرت نتيجة للإحباط من نظام العدالة التصالحية؛ حيث يفترض الأخير أن هناك مجتمعًا سابق الوجود يمكن «إصلاحه»، مجتمعًا راغبًا وقادرًا على تشجيع أعضائه على الالتزام عن طريق آليات مختلفة للعدالة.

أما العدالة التحويلية فتستند على فرضية التحرر. بمعني أنه لتحقيق العدالة يتوجب على المرء أولًا أن يضع في حسبانه المظالم المختلفة في المجتمعات ويكافحها، ويقيّم السياق الذي تقع فيه الانتهاكات.

ومثل العدالة التصالحية، تُشرك العدالة التحويلية أعضاء المجتمع في العمل سويًا والوصول إلى اتفاق بشأن العقوبات المختلفة للجناة. لكنها تقوم أيضًا على حماية هؤلاء الأقل قدرة على التمثيل، حتى تحت مظلة نظم العدالة البديلة، مثل النساء من أصول عرقية غير بيضاء، ذوي الاحتياجات الخاصة، أفراد مجتمع الميم، إلخ.

وقد استُخدمت العدالة التحويلية على نطاق واسع من قِبل أعضاء المجتمع المدني والمنظمات النشطة في العِقدين الأخيرين. على سبيل المثال، فهناك مختارات نُشرت تحت عنوان «الثورة تبدأ في البيت: مكافحة العنف الحميم في المجتمعات النشطة» توثق استخدام العدالة التحويلية في قضايا العنف الجنسي.

من ضمن هذه المنظمات، «مجموعة كريزاليس.. The Chrysalis Collective»، وهي منظمة مجتمع مدني استخدمت نظام العدالة التحويلية من أجل الوصول إلى حل ناجح لقضية عنف جنسي ارتكبها أحد أعضائها ضد عضوة أخرى.

كانت المجموعة واعية بموضوع قلة تمثيل بعض أعضائها – النساء من الأعراق غير البيضاء في هذه الحالة – في نظم العدالة المجتمعية. لذلك فقد كوَّنت فريقَيْ عمل: واحد لدعم الناجية، وفريق مساءلة للعمل مع الجاني وتشجيعه على الاعتراف بالاعتداء وتحمل مسؤولية أفعاله.

بينما كانت المجموعة الأولى تعمل على التأكد من أن الناجية لديها كل الموارد التي تحتاجها للاستمرار في النضال من أجل قضيتها، تضمنت المجموعة الثانية أعضاء محترمين من المجتمع معروفين بنزاهتهم، وكانوا أيضًا يعرفون كلًا من الناجية والجاني جيدًا، وباستطاعتهم التواصل مع كليهما بدرجة من التعاطف.

وفي الوقت الذي كان يجري فيه حث الفريقين على العمل بمنهجية تركز على الناجية، وهي الطريقة التي تضع في الاعتبار التفاوتات داخل المجتمع الأوسع، التي تجعل النساء متحفظات من الإبلاغ عن حالات الاعتداء وأقل حماية، فقد حاول الفريقان، لكي يكونا عادلين مع الجميع، الفصل بين العمل الاستقصائي وبين دعم الناجية.

وفي النهاية، فإن أسابيع طويلة من العمل الشاق مع كل من الطرفين شجعت الجاني على الاعتراف بالاعتداء. وجرت مساعدته في الحصول على الدعم المجتمعي والنفسي الذي احتاج إليه لكي يُقوِّم سلوكه.

في قلب مسار العدالة التحويلية/المساءلة المجتمعية، هناك فهم – قد يكون مزعجًا للبعض ممَن قد يرونه شكلًا من المهادنة و المساومة – مفاده أن المساءلة ليست أمرًا يحدث لأشخاص «أشرار»، لكنها عملية تُطبَّق مع أعضاء في المجتمع يقعون في فخ ارتكاب أفعال شريرة.

بمعنى ما، يمكننا القول إن هذا صدى لتراث فلسفي في فهم الشر تكوَّن قبل عقود قليلة، عندما استخدمت الفيلسوفة حنَّا آرنت، في كتابها عن محاكم ألمانيا النازية، مصطلح «تفاهة الشر»، للإشارة إلى أن معظم مرتكبي العنف ليسوا بالضرورة أفرادًا «أشرارًا» أو «مرضى نفسيين» غير طبيعيين. بدلًا من ذلك، رأتهم آرنت كأشخاص متورطين بعمق في هياكل السلطة، حتى أنهم لا يفصلون أنفسهم عنها بشكل فعلي.

لا تستخدم أرنت مصطلح «تفاهة الشر» لإعفاء الأفراد من مسؤولياتهم الأخلاقية عن العنف الذي يرتكبونه، ولا تقصد أنه ينبغي علينا عدم وضعهم موضع المساءلة، أو أنه ليس لدى الأفراد خيار في مقاومة قهرهم، بل الأحرى قدّمت مفهومًا أعقد بكثير للشر.

بالنسبة لآرنت، ينبغي توجيه اللوم للجناة، سواء قاموا بجرائمهم مرة واحدة، أو بشكل متكرر.

بالنسبة لآرنت، يُرتكب الشر بأتفه الطرق، بسبب ارتباط الناس دون تفكير بالقهر الاجتماعي والوطني الذي يُطبِّع الشر ويحوله إلى أمر مبتذل وعادي في حيوات الأشخاص والمجتمعات والأمم. فتستلزم تفاهة الشر أن يبقى الأفراد والمجتمعات دومًا مسؤولين عن أفعالهم، وواعين لمخاطر التعاون دون تفكير مع السلطة.

علاوة على ذلك، فإن مَن يمارسون العدالة التحويلية غالبًا ما يخشون أن تقع محاولات التحقيق خارج نظام العدالة الجنائية في نفس فخ العدالة الجنائية، خاصةً عندما تجعل المناقشات والاتهامات المجتمعية الناجيات يعشن المحنة النفسية للعنف الجنسي من جديد.

مجموعة «حرّضْ!.. Incite! »، وهي أحد أوائل المجموعات التي تبنّت منهج العدالة التحويلية في حوادث العنف الجنسي – كانت مشغولة بهذا. صاغ أعضاؤها بعض المبادئ الأساسية لحماية الناجيات من العنف الجنسي ولتشجيع المجتمع الأوسع على تبنِّي المساءلة. وتستمر «حرّضْ!.. Incite! » في توفير ورش عمل مختلفة ومجموعات كتابة جماعية تيّسر جعل المساءلة مشروعًا حقيقيًا وملموسًا.

المجتمعات المسؤولة هي مقاربة ثالثة للعدالة روّجتها مؤخرا شبكة «نورث ويست للناجيات من الاعتداء الجنسي..NW».

بعد تدخلها في الكثير من قضايا العنف الجنسي، وصلت الشبكة إلى استنتاج أن الناجيات ومنظمات المجتمع المدني غالبًا ما يفتقدون الأمثلة والخبرة المسبقة خارج إطار العدالة الجنائية. ووجدت الشبكة أن محاولات حماية الذات والجماعة خلال التحقيقات غالبًا ما تستهلك الوقت، بما أن المنظمات والأفراد غالبًا ما يتطلبون وقتًا لبناء المهارات والخبرة، ولتعزيز الثقة والالتزام من مختلف الأطراف.

لذلك تقر شبكة «نورث ويست» أن تكلفة التعلم وآليات التنفيذ تقع غالبًا على عاتق الناجيات، اللاتي يضطررن إلى تحمل عبء انتظار أن تبني الجماعة نفسها وتكتسب الخبرة الضرورية.

غدا هذا، على سبيل المثال، واضحًا للغاية في حالة حزب العيش والحرية. لم يكن الوقت والخبرة الضرورية للتحقيقات المجتمعية متاحين بسهولة. وأضر هذا بكل الأطراف المعنية، بمن فيهم أعضاء المجتمع المختلفين، الذين وجدوا أنفسهم يعانون الشعور بالصدمة من جديد والإحساس بالاغتراب بسبب العملية، أو مصدومين بسبب ردود الفعل. لكن لعل العبء الأكبر قد وقع على عاتق الشاكية، التي كان عليها أن تتحمل تداول قصتها ورفض تمثيلها.

هذا بالضبط هو السبب في أن شبكة نورث ويست قد طوّرت مقاربة تعمل على خلق مجتمعات تضع نفسها موضع المسؤولية طوال الوقت، وليس فقط خلال الأزمات والتحقيقات.

تنظم نورث ويست ورش عمل حول العلاقات الصحية، مثلًا، وتساعد الناس على تطوير المهارات المطلوبة لكي يكونوا مسؤولين باستمرار عن سلوكهم. وتشجع المنظمة مبادئ قد تبدو «ليبرالية أكثر من اللازم»، أو ملتبسة إذا لم توضع ديناميات السلطة في الحسبان، مثل المحاولة الدائمة لإشراك الأطراف المتهمة قبل اتخاذ إجراء مضاد، واعتبار أن الاعتداء غالبًا ما يرتكبه أفراد معقدون ينبغي إشراكهم طوال العملية، كلما كان ذلك ممكنًا.

كل هذا بالطبع كان ليبدو أضعف من المطلوب، لو لم تكن نورث ويست تعمل انطلاقًا من افتراض أن نُظم العدالة بحاجة إلى الاعتراف بالسياق الذي تعمل فيه، ما يعني غالبًا أن ديناميات السلطة بين أفراد المجتمع المختلفين تجعل بعض الناس أقدر على تمثيل أنفسهم بشكل أفضل من الآخرين.

عملت هذه المسارات جميعًا على مجموعة متنوعة من الآليات، للتأكيد على أن العدالة تتحقق عندما يُمنح السياق الذي تعمل فيه الاهتمام الأكبر. ويدور السياق هنا حول ديناميات السلطة و القوى في قلب المجتمع، والتي تُشكل قدرة المرأة على القبول، وعلى الكشف عن الاعتداء، وعلى امتلاك سرديتها، ورغبة المجتمع في الاستماع ووضع أعضائه موضع المساءلة.

كما تتضمن إدراك المدى الأوسع من تراكم (أو نقص) المهارات والخبرات حول العدالة المجتمعية بين هؤلاء الساعين للتحقيق في قضايا العنف والاعتداء الجنسي.

ولتحقيق هذا، فقد شُجعّت منظمات المجتمع المدني على التمركز حول الناجية؛ بمعنى أن تضع في حسبانها أنه في أي نظام أبوي، غالبًا ما يُوجَّه اللوم إلى الناجيات، سواء على تصرفاتهن وخبراتهن، أو على سعيهن وراء العدالة. هكذا، وباستخدام آليات العدالة التحويلية، تُشجَّع منظمات المجتمع المدني على أن تكون مبدعة في وضع تلك الاختلالات في ميزان القوى في الحسبان.

الوعي بالسياق يعني كذلك فهم كيف يعمل الشر والمساءلة عبر علاقات إنسانية مرتبكة وغير مستقرة، بما يعني أن أبشع التصرفات قد تُرتكب في أي لحظة على يد أي شخص فينا، إذا لم نفصل أنفسنا فعليًا عن الأشكال المختلفة للسلطة.

في هذا الضوء، يبقى العنف الجنسي – كما يشير نيكولا هنري، أحد محرري كتاب «عدالة الاغتصاب» – إشكالية متناقضة، حيث يكون «حتميًا، لكن مسكوت عنه»، شائعًا جدًا دائمًا، ولكن قلَّما كان منطقيًا.

كيف كان يمكن لنظام العدالة التحويلية أن يخدم قضية حزب العيش والحرية؟

أشارت دراسة استقصائية للأمم المتحدة عام 2013 إلى أن 99% من النساء في مصر قد تعرضن للتحرش الجنسي – 96.5 % منهن تعرضن للتحرش الجسدي، و95 % تعرضن للتحرش اللفظي. أضف إلى ذلك أن 64 % من الرجال اعترفوا بأنهم قد تحرشوا بالنساء من قبل.

لكن إحصائيات حالات الاغتصاب المحلية أصعب في التحقق منها، خاصة بسبب ندرة الإبلاغ عنها، في ظل الوصمة الاجتماعية الدائمة. ولا يخفف هذا حقيقة أن القانون المصري لا يعتبر الاغتصاب داخل مؤسسة الزواج جريمة، وهو ما كان ليغدو النسبة الأعلى من حالات الاغتصاب المُبلغ عنها، باعتبار أن الجنس في أغلب الأحوال يُمارَس في المجتمع المصري داخل مؤسسة الزواج.

ومع ذلك، فقد ذكرت وزارة الداخلية عام 2008 أن متوسط 200.000 جريمة اغتصاب تحدث في العام. وقد قدَّر المركز المصري لحقوق المرأة أن الرقم أكبر عشر مرات.

لذلك تتعرض النساء في مصر للعنف الجنسي على أساس مستدام ومريع، حتى عندما يظل الكثير منه «مسكوتًا عنه». ولتمكين الناجيات من المشاركة في إجراءات العدالة البديلة، يتوجب على المرء الإقرار بهذه الخلفية. ومن هنا يأتي الاقتراح بوجوب إقامة آليات العدالة بحيث تكون متمركزة حول الناجيات.

هذا هو ما بدا باعتباره مشكلة جوهرية في الطريقة التي تعامل بها حزب العيش والحرية مع الاتهامات الموجهة ضد عضويه. فرغم أن لجنة التحقيق وحزب العيش والحرية قد بذلا جهدًا في السعي من أجل العدالة، إلا أن التحقيق سار على غرار نظام العدالة الجنائية، الذي يفترض أن كلا الطرفين قادران على التمثيل بشكل متساوٍ، ويتجاهل ديناميات السلطة والقوى بينهما.

وبعد أن وصلت الاتصالات بين لجنة التحقيق والشاكية إلى طريق مسدود – عندما شعرت الأخيرة بعدم الأمان وبأنها لا تجد آذانًا صاغية، كما ذكرت لاحقًا في بيان لها – تابعت اللجنة عملها دون مشاركتها، وعلى حساب جميع الأطراف.

لكن يبدو أن البعض يحتجون بحقيقة أن العدالة لا يجب أن تتمركز حول الناجيات. بالنسبة للكثيرين، فإن آليات العدالة التحويلية الموجهة لتوفير الإجراءات المناسبة للناجيات، كي يشتركن في العملية، تخاطر بحق المدعى عليه في تحقيق عادل.

وبينما من السهل التعاطف مع هذه الحجة في سعيها وراء العدالة للجميع، فإن هذا المنطق يحاكي ببساطة عمى نظام العدالة الجنائية عن السلطة والقوى، بالإضافة إلى أنه يفترض كذلك أن التركيز على الناجيات ينكر على المدعى عليهم حقوقهم. لكن حالات مثل قضايا مجموعة كريزاليس سابقة الذكر، التي تمكنت من تكوين فريقين – مجموعة دعم للناجية ومجموعة مساءلة – تثبت كيف يمكن دائمًا أن تكون هناك طُرقًا مبتكرة للإقرار باختلالات توازن القوى وتكون في نفس الوقت عادلة مع كافة الأطراف.

إن التركيز على الناجيات يعني أن نضع في حسباننا اختلالات توازن القوى بين الشاكية، وبين العضوين المتهمين من الحزب، سواء فيما يتعلق بالنوع الاجتماعي، أو أيضًا فيما يتعلق بالسلطة الاجتماعية الناشئة من كون أحد المدعى عليهما هو زعيم الحزب والآخر عضوًا بارزًا به.

كما أن أي فرد في موقع قوة، أو سلطة أخلاقية، أو أي شخص مسؤول ماليًا عن آخر، أو مشترك في إطار من التعاون المهني معه؛ يتحمل مسؤولية أكبر عن الحرص في سلوكه. هذا التفاوت، الذي هو مركزي في قضية حزب العيش والحرية، هو في القلب من الانتقادات الموجهة إلى نظام العدالة الاجتماعية الذي حاكاه التحقيق.

اتضح هذا بشكل خاص فيما يتعلق بجانبين: كيف فهمت اللجنة فكرة القبول، واستراتيجيات التحقيق التي تبنتها.

القبول والعلاقات المرتبكة: ما تقدمه العدالة التحويلية

يستخدم القانون الجنائي، كما يشير كتاب «عدالة الاغتصاب»، ثنائية قبول وإكراه مفرطة التبسيط، تقوم على افتراض أن القبول يُعبَّر عنه دائمًا ملفوظًا وبوضوح شديد. لكن الكثير من المناقشات المحيطة بحملة «me_too# #أنا_ أيضًا» التي ظهرت في الشهور الأخيرة قد ألقت الضوء على تعقد عملية القبول، والحاجة لوضع ارتباك العلاقات الشخصية في الاعتبار. وكما تلاحظ كوني بيرك من شبكة «نورث ويست»، يتضمن هذا أمثلة تكون فيها الخطوط المحيطة بالقبول مشوشة. يتطلب هذا الارتباك العمل بفهم للعدالة محدد السياق تقدمه العدالة التحويلية، الذي فشل «العيش والحرية» في إقراره.

مثلًا، ذكر الخبير الطبي الذي استشارته لجنة التحقيق أن درجة ثمالة الشاكية، في ضوء عدم قدرتها على قيادة سيارتها، قد تجعلها غير قادرة على تذكر الأحداث، ومن ثّمَّ فقد شكك في روايتها.

لكن هذا المفهوم الخاطئ عن القبول ينفي ما قد أسسته نسويات كثيرات ودافعن عنه لعقود (ما تأخذه بعين الاعتبار بعض المحاكم الجنائية في كافة أنحاء العالم)، ألا وهو أن الثمالة تضع المسؤولية على الطرف الواعي بعدم الاستمرار في التورط في الجنس. فحين يصبح الطرف الثَمِل غير قادر على التعبير بوضوح عن رغبته، تقع المسؤولية الأخلاقية عن عدم المواصلة هكذا على الطرف الواعي.

ورغم أن تقرير اللجنة يُقر بأن المدعى عليه لم يكن عليه أخلاقيًا التورط في أي نشاط جنسي نظرًا لحالة الشاكية غير الحصينة، إلا أن اللجنة ظلت تساءل رواية المرأة، ورأت أن الطرفين كليهما تقع عليهما المسؤولية بالدرجة نفسها، فيما يخالف كافة السوابق العالمية، التي وجدت أن تناول الكحول والمخدرات يُجرِّم الطرف الواعي، وليس الطرف الثَمِل.

من الشيق جدًا، مع ذلك، أن «الخبير» الذي اختارته اللجنة لتقدير الموقف كان طبيبًا محترفًا. ففي الوقت الذي يكون فيه الأطباء المحترفون مهمين بالتأكيد في بعض السياقات، فإن الاعتماد على قول الطبيب «كالخبير» الوحيد في تقدير مواقف معقدة يرتد بنا إلى عصر التنوير، عندما كان الأطباء يحتكرون السلطة على أجسادنا. لو استُخدمت آليات العدالة التحويلية هنا، لشجعت طيفًا أوسع من الأخلاقيات غير القاصرة على الآراء الطبية، بل الممتدة كذلك إلى الحسابات الاجتماعية للقوة والضعف.

إن الحاجة إلى تقييم سياقيّ للقوة والضعف تمتد كذلك إلى فهم ردود أفعال الناجيات المعقدة للعنف الجنسي. في قضية حزب العيش والحرية، انتقد الجمهور الشاكية لعدم قيامها بالهروب أو الصراخ طلبًا للنجدة، عندما زعمت أنها قد اغتُصبت. وتصور البعض أن عدم قيامها بوضع حد للفعل الجنسي علامة على قبولها.

علاوة على ذلك، وجهت اللجنة اللوم للشهود الحاضرين في المنزل، رغم أنهم لم يكونوا في الحجرة، لعدم تدخلهم لإيقاف الاغتصاب.

يقوم افتراض اللجنة بأن الشهود كان ينبغي عليهم التدخل، أو أن الشاكية كان يجب عليها طلب النجدة، على تخيلات شائعة، لكنها خاطئة، بأن ضحايا الاغتصاب يمكن لهن دومًا الاحتجاج وطلب المساعدة.

يتجاهل هذا ما قد سمّته خبرات العدالة التحويلية بمفهوم «القبول القائم على تجربة الصدمة». يعني هذا أنه عندما يجري تجاهل رغبات الأشخاص في عدم المشاركة في ممارسة الجنس، وعندما يُفرض عليهم جنس غير توافقي، فإنهم كثيرًا ما يعانون من آثار الشعور بالصدمة النفسية، والتي تتضمن ردود فعل نفسية مثل الهروب والتجمد – كما وثقها DSM، الدليل النفسي الرئيسي المعترف به في مجاله.

الهروب، مثلًا، ليس بالضرورة هروبًا جسديًا، بل قد يتخذ شكل الانفصال، حيث يغادر الشخص الموقف ذهنيًا، لكنه يبقى فيه جسديًا. ولا ينبغي التقليل من خطورة الموقف، فقد قورنت صدمة الاغتصاب بشعور الصدمة في الحرب، وقد وُثّقت بإسهاب في كتاب جوديث هيرمان «الصدمة والشفاء: آثار العنف – من الاغتصاب إلى الإرهاب السياسي».

لكن بعض المعلقين وجهوا اللوم أيضًا للشاكية لتورطها في علاقات جنسية مع المعتدي عليها بعد الاعتداء الجنسي، وأخذوا هذا كعلامة على قبولها. يتجاهل هذا مرة أخرى، كما تشير هيرمان في عملها، أن النساء أحيانًا يبقين في علاقات جرى فيها الاعتداء عليهن أو اغتصابهن، في محاولة للتغلب على الاعتداء وتحدي تحويلهن إلى ضحايا. فاستمرار النساء في العلاقة لا يعني أنهن قبلن باغتصابهن، أو لم يتعرضن لصدمة، بل يعني معظم الوقت أنهن يحاولن التخلص من آثار الاعتداء بطرق معقدة تتماشى مع تعقيد الحدث نفسه.

تبيّن قضية حزب العيش والحرية كيف يمكن لآليات العدالة التحويلية أن توسّع إمكانيات مساءلة تباينات نقاط الضعف والقوة، والكامنة في قدر كبير من الارتباك في فهم فكرة القبول. لكن بعض الناس ينزعجون من الحاجة للتأكد باستمرار من وجود القبول اثناء ممارسة الجنس. ويجادلون بأن هذا «مدمر للحميمية» و«يحول الجنس إلى صفقة آلية».

ولكن في سياق يتفشى فيه العنف الجنسي، وتُرتكب فيه الجرائم الكبرى غالبًا على يد أشخاص ذوي نوايا حسنة، فمن الأفضل بالتأكيد أن تسأل مرة بعد مرة، بدلًا من أن تستنتج. مثلًا، أشار أحد المعلقين على الفيسبوك إلى أن هذه الشروط قد تجعل الرجال أكثر ترددًا في السعي وراء العلاقات الحميمة، أو قلقين من مغازلة النساء. لكن هذا، كما طرح هو نفسه، ليس كارثة بالتأكيد، وقد يكون هو الثمن الذي يجب أن يدفعه الرجال، على الأقل في المدى القصير، حتى يتمّ تدارك الاختلال في موازين القوى.

العدالة للناجيات، العدالة للمجتمعات: الطريق الطويل أمامنا

كانت الاتهامات الموجهة لعضوي حزب العيش والحرية، والتحقيق والمناقشات التي تبعت ذلك، مزعجة على نحو عميق للكثيرين ممَن يشعرون بأنهم جزء من المجتمع المدني المصري.

بالنسبة لكثيرين، تكلمت الشاكية عن اعتداءات تحملتها في صمت. وبالنسبة لآخرين، دفع عدد من الناس أكثر من اللازم ثمنًا لمشكلة أوسع وأكثر التصاقًا بشكل هيكلي بالنظام الاجتماعي ككل. وشعر الكثيرون أن العدالة لم تتحقق. وشعرت الغالبية أنها تتعرض للهجوم، وأنها غير مسموعة ولا ممثَّلة.

ومع ذلك فإن العملية، كما يحاول هذا المقال أن يناقش، تبيّن كذلك أنه لا يزال هناك الكثير لتعلمه. إن استكشاف مقاربات مثل «العدالة التحويلية» و«المجتمعات المسؤولة» يقدم إمكانات واحتمالات، حتى عندما لا تقدّم هذه المقاربات، بالطبع، حلولًا شاملة. لكن ما تؤكده هذه الآليات هو أنه لا يمكن أن تكون هناك أي عدالة مجتمعية دون عدالة تركّز على الناجيات. والعدالة التي تركز على الناجيات كذلك ليست إلا فكرة مفرطة التفاؤل أو حالمة، إذا لم تكن المساءلة ممارَسة معتادة لدى الأفراد والمنظمات.

بالطبع، في النهاية، من حق الناجيات اختيار ما إذا كن يرغبن في استخدام نظام العدالة الجنائية. بالنسبة للبعض، فإن جعل الدولة تُقر بالفظائع التي تعرضن لها أمر شديد الأهمية كي يشعرن بالحماية ولإبقاء المعتدين عليهن على مسافة منهن تمنعهم من التعرض لهن. لكن أخريات يقررن إعفاء المسيئين إليهن من عقوبات السجن ويفضلن المشاركة في تحقيقات العدالة المجتمعية.

يقدّم القانون المصري، على الأقل، الفرصة للمنظمات كي تعاقب أعضاءها خارج منظومة العدالة الجنائية – بالطبع دون أن يكون في ذلك خرق لها. لكن هذه ليست، ولا ينبغي أن تكون، الأشكال الوحيدة للعدالة للناجيات. بالنسبة لبعض الناجيات، فإن العدالة هي السعي وراء اعتذار علني، وبالنسبة للبعض الآخر هي خلق مجتمعات تناقش مسائل مثل القبول في العلاقات الحميمة. بالنسبة لأخريات، يأتي الشفاء والالتئام عن طريق استعادة السيطرة على سردية العنف الجنسي، المقيدة أحيانًا، بمحاولات إثارة الوعي العام حولها.

مثال عظيم على محاولة استعادة القوة والسيطرة على السردية، هو «مشروع غير قابل للكسر.. Project Unbreakable»، حيث يقتبس الناجون والناجيات كلمات المعتدين عليهم جنسيًا على لافتات، وبعد ذلك يتم تصويرهم وهم يحملونها بينما تغطي الملصقات وجوههم غالبًا. بالنسبة لناجيات أخريات، فإن إلحاق الألم البدني أو العاطفي بالمسيئين إليهن، كما هو الحال بالنسبة لجماعة جولابي جانج في الهند، هو الطريق الوحيد للتأكيد على أنهن لن يتحملن العنف المنزلي بعد ذلك.

لقد حققت النسويات ومنظمات حقوق المرأة في مصر انتصارات مهمة في جوانب معينة من مكافحة العنف الجنسي داخل المجتمع المدني طوال العقود القليلة الماضية. فبالعمل على تغيير الخطاب المحيط بالتحرش الجنسي، عن طريق تشجيع الناس على تسمية هذه الحوادث بـ «التحرش»، بدلًا من تسميتها ببساطة بـ «المعاكسة»، قاموا بتوسيع المصطلح ليشمل ما هو أكثر من التعدي الجنسي على الأطفال، الذي كانت كلمة «التحرش» مستعملة لوصفه بشكل حصري.

و خلال ثورة 2011، كانت فرق التدخل المباشر التي تقدمت لمنع التحرش والاعتداء الجنسي وإنقاذ الناجيات خلال المظاهرات ذات أهمية كبيرة في خلق خطاب عام حول العنف الجنسي.

هذه الانتصارات هامة، لكن – كما تشير قضية حزب العيش والحرية – لا يزال هناك طريق طويل علينا المضيّ فيه. قد تكون استقالة زعيم حزب هام خطوة في الاتجاه الصحيح نحو الاعتراف بخطورة مثل هذه المواقف، لكن فظاعة العنف الجنسي تتطلب عملًا أكبر بكثير للحفاظ على ثقافة المساءلة الشخصية والمجتمعية.

ليس من السهل بالطبع تبني آليات العدالة البديلة. توضح قضية حزب العيش والحرية كيف قد يكون تطبيق هذه الأنماط من الآليات شائكًا ومتطلبًا. لقد تعرض الحزب لضغط من الجمهور لإصدار تقرير في أسرع وقت ممكن، خاصة لأنه كان هناك افتراض بأنه لن يحقّق في القضية، نظرًا لتاريخ إسكات هؤلاء ممَن يتكلمون كاشفين الغطاء عن العنف الجنسي، وخصوصًا أن الاتهام كان موجهًا هذه المرة إلى زعيم الحزب نفسه.

ولإظهار رغبتهم في أخذ الموضوع بجدية، باشر الحزب العمل على القضية دون شهادة الشاكية، فقط بالرجوع إلى الحوادث التي ذكرتها في رسالتها الإلكترونية. وتبقى هذه واحدة من أعمق عيوب العملية، إذ فشلت في التركيز على الناجية.

وفي الوقت الذي يتحمل فيه حزب العيش والحرية معظم المسؤولية عن الفشل في إشعار الشاكية بالأمان والقدرة على المشاركة في العملية، فقد بيّنت القضية بأكملها أيضًا أن تأسيس مجتمعات مسؤولة وغرس الثقة في آليات العدالة البديلة يأخذ الكثير من الوقت والجهد.

ربما ما كان ليساعد المجتمع والناجية على أفضل نحو هو أخذ كل الوقت اللازم لخلق آليات آمنة كانت لتجعل الشاكية قادرة على المشاركة. ولعل هذا لم يكن ممكنًا، إلا لو تأسست إجراءات لخلق مجتمعات مسؤولة عبر الاتصالات المنتظمة والمفتوحة داخل حزب العيش والحرية، ولو حدث تراكم للمهارات طوال السنين، عبر خلق المزيد من منظمات وجماعات المجتمع المدني المسؤولة.

ومع ذلك، يؤكد هذا على أن الاشتباك مع أشكال بديلة للعدالة هو أمر مُلّح ومربك، ويتطلب، إن كان شيء سيحدث، تصميمًا عنيدًا للوصول لمكاسب مادية وتحقيق العدالة.

بعد أكثر من عشرين عامًا على نشر كتاب أروى صالح «المبتسرون»، في واحدة من أكثر الشهادات المؤلمة التي تفطر القلب عن العنف الجنسي داخل المجتمع المدني المصري، ربما يكبر قليلًا الآن الأمل في أن تكون الأشياء بادئة في التغير.

مع ذلك، لا نزال بعيدين عن أن نستطيع الادعاء إننا خلّفنا الأزمنة، التي كان الرجال يمتلكون فيها الحصانة الكاملة في الحياة العامة، وراء ظهورنا.